فصل: تفسير الآيات رقم (10- 14)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


سورة الصف

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏1‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ‏(‏2‏)‏ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ‏(‏3‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏سَبَّح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيزُ الحكيم‏}‏‏.‏ ولمَّا قال بعضُ الصحابة‏:‏ لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لبذلنا في أموالنا، فنزلت أية الجهاد، فتباطأ بعضُهم، فنزلت‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ لمَّا أخبر الله بثواب شهداء بدر، فقالوا‏:‏ والله لئن شَهِدنا قتالاً لنُفْرِغَنَّ فيه وُسْعَنا، ففرُّوا يوم أُحُد فنزلت‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت فيمن يمدح كذباً، حيث كان يقول‏:‏ قتلتُ، ولم يقتل، وطعنتُ، ولم يطعن، وقيل‏:‏ كان رجل قد آذى المسلمين يوم بدر ونكأ فيهم، فقتله صُهيب، وانتحل قتله آخر، فنزلت في المنتحِل‏.‏ أي‏:‏ لأيّ شيء تقولونه من الخير والمعروف، على أنّ مدار التوبيخ إنما هو عدم فعلهم، وإنما وجّه إلى قولهم تنبيهاً على تضاعيف معصيتهم، لبيان أنَّ المنكَر ليس ترك الخير الموعود فقط، بل الوعد به أيضاً، وقد كانوا يحسبونه معروفاً، ولو قيل‏:‏ لِمَ لا تفعلون ما تقولون، لفُهم منه أنّ المنكَر إنما هو ترك المفعول‏.‏

‏{‏كَبُرَ مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون‏}‏، هو بيان لغاية قُبح ما فعلوا، وفرط سماحته، و«كَبُرَ» جارية مجرى نعم، بزيادة معنى التعجُّب، ومعنى التعجُّب‏:‏ تعظيم الأمر في قلوب السامعين؛ لأنّ التعجُّب لا يكون إلاّ مِن شيءٍ خارج عن نظائره، وفي «كَبُرَ» ضمير مبهَم مفسَّر بالنكرة بعده، و«أن تقولوا» هو المخصوص بالذم، وقيل‏:‏ قصد فيه التعجُّب من غير لفظه، وأُسند إلى «إن تقولوا»، ونصب «مقتاً» على تفسيره، دلالةً على أنّ قولهم ما لا يفعلون مقتٌ خالص لا شوب فيه، كأنه قيل‏:‏ ما أكبر مقتاً قولهم بلا عمل‏.‏

ثم بيَّن ما هو مَرْضِي عنده، بعد بيان ما هو ممقوت بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللهَ يُحب الذين يُقاتِلون في سبيله‏}‏، وهو المقصود بالذات من السورة؛ وقوله‏:‏ ‏{‏صفًّا‏}‏ أي‏:‏ صافِّين أنفسهم، أو مصفوفين، مصدر وقع موقع الحال، ‏{‏كأنهم بُنيان مرصُوص‏}‏؛ لاصق بعضه ببعض، وقيل‏:‏ أريد‏:‏ استواء نيّاتهم في حرب عدوّهم، حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان الذي رُصَّ بعضه إلى بعض، وهو حالٌ أيضاً، أي‏:‏ مشبّهين بالبنيان الملاصق‏.‏ قال ابن عرفة‏:‏ التشبيه في الثبات وعدم الفرار كثبوت البناء ولزومه‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ ‏{‏سَبَّحَ لله‏}‏، قال الورتجبي‏:‏ لمَّا عاينوا آيات الله طلبوا فيها مشاهدة الله، فوجدوا في نفوسهم تأثير مباشرة نور قدرة الله، فقدَّسُوه أنه باين بوجوده من الحدثان‏.‏ ه‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَبُرَ مقتًا‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، قال القشيري‏:‏ خُلفُ الوعد مع كلِّ أحدٍ قبيحٌ، ومع الله أقبح، ويُقال‏:‏ إظهارُ التجلُّدِ من غير شهودِ مواضعَ الفقر إلى الحقِّ في كل نَفَسٍ يؤذِنُ بالبقاء مع ما حصل به الدعوى، واللهُ يحب التبرِّي من الحول والقوة‏.‏

ويقال‏:‏ لم يتوعَّد على زَلَّةٍ بمثْلِ ما توعَّد على هذا، بقوله‏:‏ ‏{‏كَبُرَ مقتًا عند الله‏}‏‏.‏ ه‏.‏ ولذا فرّ كثير من العلماء عن الوعظ والتذكير، وآثروا السكوت، كما قال بعضهم‏:‏

لو كان ينفعني وعظي وعظتُكم *** أنا الغريق فما خوفي مِن البلل

قال أبو زيد الثعالبي‏:‏ وهذا إن وَجد مَن يكفيه ويقوم عنه في الوعظ، وإلاّ فلا ينبغي السكوت‏.‏ قال الباجي في سنن الصالحين، عن الأصمعي‏:‏ بلغني أنَّ بعض الحُكماء كان يقول‏:‏ إني لأعظكم، وإني لكبير الذنوب، ولو أنَّ أحداً لا يعظ أخاه حتى يُحْكِم أمرَ نفسه لتُرك الأمر بالخير، واقتُصر على الشر، ولكن محادثة الإخوان حياة القلوب وجلاء النفوس، وتذكير مِن النسيان‏.‏ وقال أبو حازم‏:‏ إني لأعظ الناسَ، وما أنا بموضع الوعظ، ولكن أُريد به نفسي‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ وكان شيخ شيوخنا سيدي على الجمل العمراني رضي الله عنه يقول حين يُذَكِّر‏:‏ نحْن ما ننبَحُ إلاّ على نفوسنا‏.‏ ه‏.‏

ثم قال‏:‏ وقال الحسن لِمطرف‏:‏ عِظ أصحابك، فقال‏:‏ أخاف أنْ أقولَ ما لا أفعل، فقال‏:‏ يرحمك الله، وأيّنا يفعل ما يقول، ودّ الشيطانُ لو ظفر منكم بهذه، فلم يأمر أحدٌ منكم بمعروف ولم ينهَ عن منكر‏.‏ ه‏.‏ وفي حديث الجامع‏:‏ «مُروا بالمعروف وإنْ لم تَفعلُوه، وانْهَوْا عن المنكرِ وإن لم تَتجنبُوه» وقال الغزالي‏:‏ مَن ترك العمل خوف الآفة والرياء فإنَّ ذلك منتهى بغية الشيطان منه إذ المراد منه ألاَّ يفوته الإخلاص، ومهما ترك العمل فقد ضيَّع العمل والإخلاص‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ ولا شك أنَّ الوعظ مِن المخلصين وأهل القلوب، أشد تأثيراً من غيرهم، فإنَّ الكلامَ إذا خرج من القلب وقع في القلب، وإذا خرج من اللسان حدّه الآذان، وفي الحِكَم‏:‏ «تسبق أنوارُ الحكماء أقوالَهم، فحيث ما صار التنوير وصل التعبير»‏.‏ فأهل النور تسري أنوارُهم في الجالسين قبل أن يتكلموا، وربما انتفع الناسُ بصمتهم، كما ينتفعون بكلامهم، وأمّا أهل الظُلمة وهو مَن في قلبه حُب الدنيا فكلامهم قليل الجدوى، تسبق ظلمةُ قلوبهم إلى قلوب السامعين، فلا ينتفع إلاّ القليل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 9‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏5‏)‏ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏6‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏7‏)‏ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ‏(‏8‏)‏ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ واذكر يا محمد لهؤلاء المعرضين عن الجهاد قول موسى لبنى إسرائيل، حين ندبهم إلى قتل الجبابرة، بقوله‏:‏ ‏{‏ياقوم ادخلوا الأرض المقدسة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 21‏]‏ الآية، فلم يمتثلوا أمره، وعصوه أشد عِصيان، حيث قالوا‏:‏ ‏{‏ياموسى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 22‏]‏ الآية، إلى أن قالوا‏:‏ ‏{‏فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 24‏]‏ الآية‏.‏ وآذوه عليه السلام كل الإذاية فقال‏:‏ ‏{‏يا قوم لِمَ تُؤذونني وقد تعلمون أني رسولُ الله إِليكم‏}‏، فالجملة‏:‏ حال، والحال أنكم تعلمون عِلماً قطعياً، مستمراً، بمشاهدة ما ترون من المعجزات الباهرة، أني رسولُ الله إليكم، لأُرشدكم إلى خير الدنيا والأخرة، ومِن قضية عِلْمكم أن تُبالغوا في تعظيمي، وتُسارعوا إلى طاعتي، ‏{‏فلما زاغوا‏}‏ أي‏:‏ أصرُّوا على الزيغ عن الحق الذي جاءهم به، واستمروا عليه ‏{‏أزاغ اللهُ قلوبَهم‏}‏؛ صرفها عن قبول الحق، والميل إلى الصواب، لصرف اختيارهم نحو الغيّ والإضلال، ‏{‏واللهُ لا يهدي القوم الفاسقين‏}‏ أي‏:‏ لا يهدي القوم الخارجين عن الطاعة ومنهاج الحق، المصرِّين على الغواية، هدايةً موصّلَة إلى الطاعة وحسن الأدب، والمراد بهم المذكورون خاصة، والإظهار في موضع الإضمار لذمِّهم بالفسق وتعليل عدم الهداية، أو جنس الفاسقين، وهم داخلون في حكمهم دخولاً أوليًّا، وأَيًّا ما كان فوصفهم بالفسق نظر إلى ما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 25‏]‏، هذا الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم، ويرتضيه الذوق السليم‏.‏ انظر أبا السعود‏.‏

‏{‏وإِذ قال عيسى ابنُ مريم يا بني إِسرائيلَ‏}‏، لم يقل‏:‏ يا قوم، كما قال موسى، لأنه لا نسب له فيهم من جهة الأب حتى يكونوا مِن قومه‏:‏ ‏{‏إِني رسولُ الله إِليكم‏}‏، كان رسولاً لهم ولمَن دخل معهم، كالنصارى، ‏{‏مُصَدِّقًا لما بين يديَّ مِن التوراة‏}‏، وهو من إحدى الدواعي إلى تصديقهم إياه، ‏{‏ومُبشِّرًا برسولٍ يأتي من بعدي‏}‏، وهو من الدواعي أيضاً إلى تصديقه؛ لأنَّ بشارته به عليه السلام واقعة في التوراة، أي‏:‏ أُرسلت إليكم في حال تصديقي للتوراة، وفي حال بشارتي برسول يأتي من بعدي، يعني‏:‏ أنَّ ديني التصديق بكتب الله وأنبيائه، مَن تقدّم ومَن تأخّر، وهذا الرسول ‏{‏اسمُه أحمدُ‏}‏ وهو محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال القشيري‏:‏ كل نبيًّ بشّر قومَه بنبيِّنا صلى الله وعليه وسلم، وأفرد اللهُ عيسى بالذِّكْرِ في هذا الموضع لأنه أخِرُ نبيِّ قبل نبيِّنا صلى الله عليه وسلم، فبيّن أنّ البشارة به عَمَّتْ جميعَ الأنبياء واحداً بعد واحدٍ حتى انتهى إلى عيسى عليه السلام‏.‏ ه‏.‏ قال الكواشي‏:‏ و«أحمد» بناء مبالغة، والمعنى‏:‏ أنَّ الأنبياء كلهم حمّادون الله، وهو أكثر حمداً مِن غيره، وكلهم محمودون لِما فيهم جميل الأخلاق، وهو أكثرهم خِلالاً حميدة‏.‏ ثم قال‏:‏ وعن كعب‏:‏ قال الحواريون‏:‏ يا روح الله؛ هل بعدنا من أمة‏؟‏ قال‏:‏ نعم، أمة أحمد، حكماء، علماء، أبراراً، أتقياء، كأنهم من الفقه أنبياء، يرضون من الله باليسير من الرزق، ويرضى باليسير من العمل‏.‏

ه‏.‏ وقال السهيلي‏:‏ في اسمه «أحمد ومحمد» إشارة إلى كونه خاتماً؛ لأنَّ الحمد مشروع عند انقضاء الأمور واختتامها وتمامها‏.‏ ه‏.‏

‏{‏فلما جاءَهم‏}‏ أيك عيسى، أو محمد عليهما السلام ‏{‏بالبيناتِ‏}‏؛ المعجزات الظاهرة، ‏{‏قالوا هذا سِحرٌ مبين‏}‏؛ ظاهر سحريته، وقرأ الإخوان «ساحر» وصف للرسول‏.‏

‏{‏ومَن أظلمُ ممن افترى على الله الكذبَ وهو يُدْعَى إِلى الإِسلام‏}‏ أي‏:‏ أيّ الناس أشد ظلماً ممن يُدْعى إلى سعادة الدارين، فيضع موضع الإجابة الافتراءَ على الله عزّ وجل، بقوله لكلامه الذي دعا عباده إلى الحق‏:‏ هذا سحر‏؟‏ أي‏:‏ هو أظلم من كل ظالم، ‏{‏واللهُ لا يهدي القومَ الظالمين‏}‏ أي‏:‏ لا يُرشدهم إلى ما فيه صلاحهم؛ لعدم توجههم إليه‏.‏ ‏{‏يُريدون لِيُطفئوا نورَ الله بإفواههم‏}‏ أي‏:‏ دينه أو‏:‏ كتابه، أو حجته النيِّرة، واللام مزيدة، أي‏:‏ يُريدون إطفاءَ نور الله، أو للتعليل والمفعول محذوف، أي‏:‏ يريدون الكذب ليُطفئوا نورَ الله، وهو تهكُّم بهم في إرادتهم إبطال الإسلام، بقولهم في القرآن‏:‏ هذا سحر، مُثِّلت حالهم بحال مَن ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه، ‏{‏والله مُتِم نُوره‏}‏ أي‏:‏ مبلغه إلى غاية يُنشره في الآفاق، ويُعليه على الأديان ‏{‏ولو كَرِه الكافرون‏}‏‏.‏

‏{‏هو الذي أرسل رسولَه بالهُدى‏}‏؛ بالقرآن، أو بالمعجزات، أو بالهداية ‏{‏ودين الحق‏}‏؛ الملة الحنيفية ‏{‏ليُظهره على الدين كلِّه‏}‏ أي‏:‏ ليعليه على جميع الأديان المخالفة له ولقد أنجز الله عزّ وعلا وعده، حيث جعله بحيث لم يبقَ دين من الأديان إلاَّ وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام‏.‏ وعن مجاهد‏:‏ إذا نزل عيسى لم يكن إلا دين الإسلام‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏ولو كَرِه المشركون‏}‏ ذلك، قال الطيبي‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومَن أظلم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، حذَّر تعالى مما لقي قوم موسى من إزاغة القلوب، والحرمان من التوفيق، بسبب الأذى، وما ارتكب قوم عيسى بعد مجيئه بالبينات من تكذيبه وقولهم فيه‏:‏ «هذا سحر مبين»، ألاَ ترى كيف جمع الكل في قوله‏:‏ ‏{‏ومن أظلم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قال‏:‏ وقضية الدعوة إلى الإسلام توقير مَن يدعو إليه، وإجابة دعوته‏.‏ ثم قال‏:‏ وأمّا قوله‏:‏ ‏{‏والله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏ هو تذييل لقوله‏:‏ ‏{‏ومَن أظلم ممن أفترى‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية؛ لأنّ الظلم هو‏:‏ وضع الشيء في غير محله، وأيُّ ظلم أعظم من جعل إجابة الداعي إلى الله مفترياً‏؟‏‏!‏ والكفر‏:‏ التغطية ومحاولة إطفاء النور إخفاء وتغطية، ودين الحق هو التوحيد، والشركُ يقابله، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏ولو كره المشركون‏}‏‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ سوء الأدب مع الأكابر، وإذايتهم، سبب كل طرد وبُعد، وسبب كلّ ذُل وهوان، وحسن الأدب معهم وتعظيمهم، سبب كُلِّ تقريب واصطفاء، وسبب كُلِّ عز ونصر، ولذلك قال الصوفية‏:‏ «اجعل عَمَلك مِلحًا، وأدبك دقيقًا»‏.‏ ألآ ترى بنى إسرائيل حين أساؤوا الأدب مع نبي الله موسى بقولهم‏:‏ ‏{‏فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلآ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 24‏]‏ الخ كيف أذلَّهم الله وأخزاهم إلى يوم القيامة، وانظر أصحابَ نبينا صلى الله عليه وسلم حيث تأدّبوا غاية الأدب، وقالوا يوم بدر‏:‏ «لا نقول كما قالت بنو إسرائيل‏:‏ اذهب أنت وربك، ولكن اذهب أنت وربك ونحن معك، والله لو خُضت بنا ضحضاح البحر لخضناه معك» كيف أعزَّهم الله ونصرهم على سائر الأديان، ببركة حُسن أدبهم رضي الله عنهم وأرضاهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 14‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏10‏)‏ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏11‏)‏ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏12‏)‏ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏13‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا هل أَدُلُّكُمْ على تجارةٍ تُنجِيكم من عذابٍ أليم‏}‏، وكأنهم قالوا‏:‏ وما هذه التجارة، أو‏:‏ ماذا نصنع‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏تؤمنون بالله ورسوله وتُجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفُسِكم‏}‏، وهو خبر بمعنى الأمر، أي‏:‏ وجاهِدوا، وجيء به بصيغة الخبر للإيذان بوجوب الامتثال، فكأنه قد وقع، فأخبر بوقوعه، وقرىء «تؤمنوا» و«تجاهدوا» على إضمار لام الأمر‏.‏ ‏{‏ذلكم خير لكم‏}‏، الإشارة إلى الإيمان والجهاد بقِسْميه، أي‏:‏ هو خير لكم من أموالكم وأنفسكم ‏{‏إن كنتم تعلمون‏}‏ أنه خير لكم، وقد قلتم‏:‏ لو نعلم أيّ الأعمال أحب إلى الله لسارعنا، فهذا هو أحب الأعمال إلى الله، أو‏:‏ إن كنتم من أهل العلم؛ فإنَّ الجهلة لا يعتد بأفعالهم‏.‏

‏{‏يَغفر لكم ذنوبكم‏}‏‏:‏ جواب للأمر المدلول بلفظ الخبر، على قول، أو شرط مقدّر، أي‏:‏ إن تُؤمنوا وتُجاهدوا يغفر لكم ذنوبكم ‏{‏ويُدْخِلْكم جناتٍ تجري مِن تحتها الأنهارُ ومساكنَ طيبةً‏}‏ ولا تطيب إلاّ بشهود الحبيب ‏{‏في جناتِ عَدْن‏}‏ أي‏:‏ إقامة لا انتقال عنها‏.‏ وجنة عدن هي مدينة الجنة ووسطها، يسكنها الصالحون الأبرار من العلماء والشهداء، وفوقها الفردوس، هي مسكن الأنبياء والصدِّيقين من المقربين، هذا هو المشهور، كما في الصحيح، ‏{‏ذلك الفوزُ العظيمُ‏}‏ أي‏:‏ ما ذكر من المغفرة وإدخال الجنة الموصوفة بما ذكر من الأوصاف الجليلة هو الفوز الذي لا فوز وراءه‏.‏

‏{‏وأُخرى‏}‏ أي‏:‏ ولكم إلى هذه النعمة العظيمة نعمةٌُ أخرى عاجلة ‏{‏تُحبونها‏}‏ وترغبون فيها، وفيه شيء من التوبيخ على محبة العاجل‏.‏ ثم فسَّرها بقوله‏:‏ ‏{‏نصرٌ من الله وفتحٌ قريبٌ‏}‏ أي‏:‏ عاجِل، وهو فتح مكة، والنصر على قريش، أو فتح فارس والروم، أو‏:‏ هل أَدُلكم على تجارةٍ تُنجيكم، وعلى تجارةٍ تُحبونها، وهي نصر وفتح قريب، ‏{‏وبَشِّر المؤمنين‏}‏‏:‏ عطف على «تؤمنوا» لأنه في معنى الأمر كأنه قيل لهم‏:‏ آمنوا وجاهِدوا يُثبكم الله وينصركم وبشر أيها الرسول بذلك المؤمنين‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصارَ الله‏}‏ أي‏:‏ أنصار دينه ‏{‏كما قال عيسى ابنُ مريمَ للحواريين مَنْ أنصاري إِلى الله‏}‏ ‏؟‏ أي‏:‏ مَن يكون مِن جندي ومختصاً بي، متوجهاً إلى الله‏.‏ ظاهره تشبيه كونهم أنصاراً بقول عيسى‏:‏ ‏{‏مَن أنصاري إلى الله‏}‏ ولكنه محمول على المعنى، أي‏:‏ كونوا أنصارَ الله، كما كان الحواريون أنصارَ عيسى، حينما قال لهم‏:‏ مَن أنصاري إلى الله‏؟‏ ‏{‏قال الحواريون نحن أنصارُ الله‏}‏ أي‏:‏ نحن الذين ينصرون دينه، والحواريون‏:‏ أصفياؤه، وهم أول مَن آمن به من بني إسرائيل، قاله ابن عباس، وقيل‏:‏ كانوا اثني عشر رجلاً‏.‏ وحواري الرجل‏:‏ صفوته وخاصته من الحَور، وهو البياض الخالص، وقيل‏:‏ كانوا قصّارين يُحوِّرون الثياب، أي‏:‏ يُبيّضونها، وقيل‏:‏ إنما سُمُّوا حواريين لأنهم كانوا يُطهرون النفوس بإقامتهم الدين والعلم، ولمَّا كفرت اليهود بعيسى عليه السلام، وهَمُّوا بقتله، فرَّ مع الحواريين إلى النصارى بقرية يُقال لها‏:‏ نصرى، فنصوره، فقاتل اليهودَ بهم مع الحواريين، وهذا معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فآمنت طائفةٌ من بني إسرائيل وكفرت طائفةٌ‏}‏ به، فقاتلوهم ‏{‏فإيَّدنا الذين آمنوا‏}‏ بعيسى عليه السلام ‏{‏على عدوهم‏}‏ أي‏:‏ قوّيناهم ‏{‏فأصبحوا ظاهِرين‏}‏؛ غالبين عليهم‏.‏

الإشارة‏:‏ هل أّدلُكم على تجارةٍ، وهي سلوك طريق التربية، على أيدي الرجال، تُنجيكم من عذاب أليم، وهو غم الحجاب على الدوام؛ تؤمنون بالله ورسوله أولاً، وتجاهدون هواكم وسائرَ العلائق بأموالكم وأنفسكم ثانياً فالأموال تدفعونها لمن يدلكم على ربكم، والأنفس تُقدمونها لمَن يُربيكم، يَتحكم فيها بما يشاء ‏{‏في سبيل الله‏}‏ في الطريق الموصلة إلى حضرته، ‏{‏ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون‏}‏ أي‏:‏ إن كان لكم علم وعقل، فهذا خير لكم، يغفر لكم ذنوبكم، أي‏:‏ يُغطي مساوئكم، فيُغطي وصفكم بصوفه، ونعتكم بنعته، فيُوصلكم بما منه إليكم، لا بما منكم إليه، ويُدخلكم جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم، ومساكن طيبة هي السكنى والأطمئنان في مقامات اليقين، مع شهود رب العالمين، أو روح الرضا وريحان التسليم، أو الإقامة في حضرة القدس، مع التنزُّه في المقامات، في جنات عدن، وهي الرسوخ والإقامة في جنات المعارف ذلك الفوز العظيم‏.‏

‏{‏وأُخرى تحبونها‏}‏ عاجلة، ‏{‏نصر من الله‏}‏‏:‏ عِزٌّ دائم، ‏{‏وفتح قريب‏}‏ هو دخول بلاد المعاني‏.‏ وقال القشيري‏:‏ الفتح القريب‏:‏ الرؤية والزلفة، ويقال‏:‏ الشهود، ويقال‏:‏ الوجود أبد الأبد‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏وبَشِّر‏}‏ بأنهم ظافرون بهذا، إن فعلوا ما أُمروا به‏.‏ وقال الورتجبي‏:‏ نصر الله‏:‏ تأييده الأزلي، الذي سبق للعارفين والموحِّدين، والفتح القريب‏:‏ كشف نقابه وفتح أبواب وِصاله، بنصره ظهروا على نفوسهم، فقهروها وبفتحه أبواب الغيب شاهَدوا كل مغيب مستور من أحكام الربوبية وأنوار الألوهية‏.‏ ه‏.‏ وباقي الآية يُرغب في القيام في نصر الدين، وإرشاد العباد إلى الله، حتى تظهر أنوار الدين، وتخمد ظلمة المعاصي والبِدَع من أقطار البلاد، وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وسلّم‏.‏

سورة الجمعة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏1‏)‏ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏2‏)‏ وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏3‏)‏ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏4‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يُسَبِّحُ لله ما في السموات وما في الأرض‏}‏، وهذا التسبيح إمّا أن يكون‏:‏ تسبيح خِلقة، يعني‏:‏ أنك إذا نظرت إلى شيء دلتك خِلقتُه على وحدانيته تعالى، وتنزيهِه عما لا يليق به، وإمّا أن يكون تسبيح معرفة؛ بأن يخلق في كل شيء ما يعرفه به تعالى وينزّهه، ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن مِن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِحُ بحَمدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُون تَسْبِيحَهُمْ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 44‏]‏، أو‏:‏ تسبيح ضرورة، بأن يُجري اللهُ التسبيحَ على كل جوهر من غير معرفةٍ له بذلك‏.‏ قاله النسفي‏.‏

‏{‏الملكِ القُدُّسِ‏}‏ أي‏:‏ المنزَّه عما لا يليق به من الكمالات‏.‏ ولا يُقال‏:‏ المنزّه عن النقائص؛ إذ لا يصح اتصافه بها حتى تُنفى عنه، وربما يكون نقصاً في حقه، كما يُقال‏:‏ الملِك ليس بجزار‏.‏ ‏{‏العزيزِ الحكيمِ‏}‏ وقرئت هذه الصفات الأربع بالرفع على المدح‏.‏

‏{‏هو الذي بَعَثَ في الأميين رسولاً منهم‏}‏ أي‏:‏ بعث رجلاً أُميًّا في قوم أميين، وقيل‏:‏ ‏{‏منهم‏}‏‏:‏ من أنفسهم، يعلمون نَسَبه وأحواله وصِدْقَه‏.‏ والأُمي‏:‏ منسوب إلى أميّة العرب؛ لأنهم لايقرؤون ولا يكتبون من بين الأمم‏.‏ قيل‏.‏ بُدئت الكتابة في العرب بالطائف وهم أخذوها من أهل الحيرة، وأهل الحيرة من أهل الأنبار‏.‏ ‏{‏يتلو عليهم آياته‏}‏؛ القرآن ‏{‏ويُزكِّيهم‏}‏؛ يطهرهم من الشرك وخبائث الجاهلية، ‏{‏ويُعَلّمهم الكتابَ‏}‏؛ القرآن ‏{‏والحكمةَ‏}‏؛ السُنَّة، أو الفقه في الدين، أو إتقان العلم والعمل، ‏{‏وإِن كانوا من قبلُ لفي ضلالٍ مبين‏}‏؛ كفر وجهالة‏.‏ و«إن» مخففة، أي‏:‏ وإن الشأن كانوا في ضلال فظيع، وهو بيان لشدة افتقارهم لمَن يرشدهم، وإزاحة لِمَا عسى أن يتوهم مِن تعلُّمه صلى الله عليه وسلم مِن الغير؛ إذ كلهم كانوا مغروقين في الجهل والضلال، ليس فيهم مَن يعلم شيئاً‏.‏

‏{‏وآخرين منهم‏}‏‏:‏ عطف على «الأميين» أي‏:‏ بعث في الأميين، الذين في عصره، وفي آخرين من الأميين ‏{‏لَمَّا يلحقوا بهم‏}‏ أي‏:‏ لم يلحقوا بهم بعدُ، وسيلحقون، وهم الذين يأتون بعد الصحابة إلى يوم القيامة، وقيل‏:‏ هم العجم، أي‏:‏ وآخرين من جنسهم، وقيل‏:‏ عطف على «يُعلّمهم» أي‏:‏ يُعلّم أخرين منهم، وعلى كلِّ فدعوته صلى الله عليه وسلم عامة‏.‏ ‏{‏وهو العزيزُ الحكيم‏}‏؛ المبالغ في العزة والحكمة، ولذلك مكَّن رجلاً أميًّا من ذلك الأمر العظيم، واصطفاه من بين كافة البشر‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ الذي امتاز به محمد صلى الله عليه وسلم من بين سائر البشر ‏{‏فضلُ الله‏}‏ وإحسانه، أو‏:‏ ذلك التوفيق حتى يؤمنوا من فضل الله، لا باستحقاق، أو الاعتناء بالبعث وعدم الإهمال، مع ما حصل منه من النتائج المذكورة، فضل من الله، وقطع الأسباب في الجملة في استحقاق الفضل؛ إذ علقه بالمشيئة في قوله‏:‏ ‏{‏يؤتيه مَن يشاء‏}‏ تفضُّلاً وعطية، ‏{‏والله ذو الفضل العظيم‏}‏ الذي يُستحقر دونه نِعم الدنيا والآخرة‏.‏

الإشارة‏:‏ كل مَن لم يعرف الله معرفةَ العيان، فهو من الأميين، فكما مَنَّ الله تعالى على عباده ببعثه الرسول، بعد أن كانوا في ضلالٍ مبين، كذلك مَنَّ على أمته بعده، فبَعَثَ مشايخَ التربية يتلو عليهم آياته الدالة على شهوده وظهوره، ويزكيهم من الرذائل التي تحجبهم عن الله، ويُعلّمهم أسرارَ الكتاب، وأسرارَ الحكمة، وهي الشريعة، إذ لا يوقف على أسرارهما إلاّ بعد تطهير القلوب، وتزكية النفوس، وإن كانوا من قبل ملاقاة المشايخ لفي ضلال مبين، حائدين عن طريق الشهود، وبعث أيضاً في آخرين منهم من يُذكِّرهم ويُعرفهم بالله، وهكذا لا ينقطع الداعي إلى يوم القيامة، لكن لا يصل إليه إلاّ مَن أراد الله أن يوصله إليه، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 8‏]‏

‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏5‏)‏ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏6‏)‏ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏7‏)‏ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏مَثَلُ‏}‏ اليهود ‏{‏الذين حُمِّلُوا التوراةَ‏}‏ أي‏:‏ كُلِّفوا علمها، والعمل بما فيها، ‏{‏ثم لم يحملوها‏}‏؛ لم يعملوا بما فيها، فكأنهم لم يحملوها، ‏{‏كَمَثَلِ الحمارِ يحمل أسفاراً‏}‏ جمع سفر، وهو الكتاب الكبير، شَبّه اليهودَ بالحمار، فإنهم حملة التوراة وقُرّاؤها وحُفّاظ ما فيها، ثمّ لم يعملوا بها، ولم ينتفعوا بآياتها، وذلك‏:‏ أنَّ فيها بعث رسولِ الله صلى الله عليه وسلم والبشارة به، فلم يؤمنوا، فهم أشبه شيء بحمار حمل كُتباً كباراً من كتب العلم، فهو يشمي بها، ولا يدري منها إلاَّ ما يلحقه من الكدّ والتعب‏.‏ وفي التلخيص‏:‏ وَجْهُ الشَبَه‏:‏ حرمان الانتفاع بأبلغ نافع، مع تحمُّل التعب في استصحابه، وكل مَن عَلِمَ ولم يعمل بعلمه فهذا مثلُه‏.‏ قال الطيبي‏:‏ لمّا تمسكت اليهود بقوله‏:‏ «في الأميين»؛ لأنه خاص بالعرب أتبعه بضرب المثل لمَن تمسّك بهذه الشبهة وترك الدلائل الواضحة المسطورة بعموم البعثة، وأنه كالحمار يحمل أسفاراً، ولا يدري ما حمل، ولا ما فيه‏.‏ ه‏.‏ وجملة «يحمل» حال، والعامل فيها، معنى المثل، أو‏:‏ صفة للحمار؛ إذ ليس المراد به معيناً فهو كقوله‏:‏

ولقد أَمُرُّ على اللئيم يَسُبُّني‏.‏‏.‏‏.‏ *** ‏{‏بئس مثلُ القومِ الذين كذّبوا بآيات الله‏}‏ أي‏:‏ بئس مثلاً مثل القوم الذين كذّبوا، أو بئس مثل القوم المكذِّبين مثلهم، وهم اليهود الذين كذّبوا بآيات الله الدالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ‏{‏واللهُ لا يهدي القوم الظالمين‏}‏ وقت اختيارهم الظلمَ، أو‏:‏ لا يهدي مَن سبق في علمه أنه يكون ظالماً، أو الظالمين لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد‏.‏

‏{‏قل يا أيها الذين هادوا إِن زعمتم أنكم أولياءُ لله من دون الناس فتَمَنَّوا الموتَ إِن كنتم صادقين‏}‏، كانوا يقولون‏:‏ ‏{‏نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 18‏]‏، أي‏:‏ إن كان قولكم حقًا، وكنتم على ثقة فتمنُّوا على الله أن يُميتمكم ويبعثكم سريعاً إلى دار كرامته، التي أعدّها لأوليائه، فإنّ الحبيب يُحب لقاء حبيبه، وينتقل من دار الأكدار، إلى دار السرور والهناء، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم‏}‏ من الكفر والمعاصي الموجبة للنار‏.‏ والباء متعلقة بما يدل عليه النفي، أي‏:‏ يأبون ذلك بسبب ما قدمت أيديهم، ‏{‏والله عليم بالظالمين‏}‏ أي‏:‏ بهم‏.‏ وإيثار الإظهار في موضع الإضمار لذمهم والتسجيل عليهم بالظلم في كل ما يأتون وما يذرون من الأمور، التي من جملتها ادعاء ما هم عنه بمعزل من ولاية الله‏.‏

ثم إنهم لم يجسر أحدٌ منهم أن يتمناها، بل فرٌّوا منها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل إِنَّ الموت الذي تفرون منه‏}‏ ولم تجسروا أن تتمنوه خيفة أن تؤخذوا بوبال كفركم، ‏{‏فإنه مُلاقيكم‏}‏ لا محالة، من خير صارف يلويه، ولا عاطف يُثنيه، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏

«لو تَمَنَّوه لماتوا من ساعتهم»، وهذه إحدى المعجزات‏.‏ ودخلت الباء في خبر «إن» مع أنه لا يجوز‏:‏ إن زيداً فمنطلق؛ لأنَّ «الذي» قد عُرف فيه معنى الشرط والجزاء، كأنه قيل‏:‏ إن فررتم من أي موت كان؛ من قتال أو غيره، فإنه ملاقيكم، ‏{‏ثم تُرَدُّون إلى عالم الغيب والشهادة‏}‏ الذي لاتخفى عليه خافية، ‏{‏فيُنبئكم بما كنتم تعملون‏}‏ من الكفر والمعاصي، بأن يجازيكم عليها‏.‏ قال الكواشي‏:‏ أكذب اللهُ اليهودَ في ثلاث، افتخروا بأنهم أولياء الله فكذبهم بقوله‏:‏ ‏{‏فتَمنَّوالموتَ‏}‏ وبأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم، فشُبِّهوا بالحمار يحمل أسفاراً، وبالسبت، وأنه ليس للمسلمين مثله، فجعل الله لهم الجمعة‏.‏ ه‏.‏ ولذلك ذكرها بإثر تكذيبهم‏.‏

الإشارة‏:‏ مَثَلُ الذي يقرأ القرآن ويتلوه ولا يتدبّر معانيه، أو يقرأ العلم ولا يعمل به، كمثل الحمار‏.‏‏.‏ الخ‏.‏ وعُروض الموت على النفس، أو العمل أو الحال، ميزان صحيح، فكل حال وعمل، أو شخص هزمه الموت فهو معلول، وحب البقاء للترقِّي والتوسعة في المعرفة محمود، وغيره مذموم، وقد تقدّم في البقرة تفصيل ذلك، فراجعه إن شئت‏.‏

وأمّا تمني الموت فقد نُهي عنه، إلاّ لخوف الفتنة، فقد قال ابن عباس لعمر رضي الله عنهما‏:‏ ما لك تُكثر الدعاء بالموت‏؟‏ وما الذي مَلِلت من العيش‏؟‏ أما تُقوّم فاسداً وتعين صالحاً‏؟‏ فقال عمر‏:‏ يا بن عباس‏!‏ كيف لا أتمنى الموت، وأطلب القدوم على الله، ولست أرى في الناس إلاّ فاتحاً فاه لِلعدة من الدنيا إمّا بحق لا يثق به، أو بباطل لا يناله، ولولا أن يسألني ربي عن الناس لفررت منهم، وتصبح الأرض مني بلاقع‏.‏ ه‏.‏

وقيل لسفيان الثوري‏:‏ لِمَ تتمنَّ الموت، وقد نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عنه‏؟‏ فقال‏:‏ إن سألني ربي عن ذلك أقول‏:‏ لثقتي بك يا رب، وخوفي من الناس، ثم أنشد‏:‏

قد قلتُ لمّا مَدَحوا الحياة وأسرفوا *** في الموت ألف فضيلة لا تُعرف

فيها أمان لقائه بلقائه *** وفراق كل معاشرِ لا يُنصِف

وقال طاوس‏:‏ لا يحرز المرء إلاَّ حفرته، وأنشدوا‏:‏

يبكي الرجالُ على الحياة وقد *** أفنى دموعي شوقي إلى الأجل

أموت من قبل أن يفر مني *** دَهْري فإني منه على وجل

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 11‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏9‏)‏ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏10‏)‏ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إِذا نودي للصلاة من يوم الجمعة‏}‏، والإمام على المنبر، و«مِن» بيان ل «إذا» أو تفسير لها، وقيل‏:‏ «مِن» بمعنى «في» كقوله‏:‏ ‏{‏مَاذَا خَلَقُواْ مِن ألأَرْضِ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 40 والأحقاف‏:‏ 4‏]‏ أي‏:‏ في الأرض‏.‏ وإنما سُمي جُمعة لاجتماع الناس فيه للصلاة، وقيل‏:‏ أول مَن سمّاها جمعة‏:‏ كعب بن لؤي، وكان يُسمى العروبة، وقيل‏:‏ إنَّ الأنصار قالوا قبل الهجرة‏:‏ لليهود يومٌ يجتمعون فيه في كل سبعة أيام، وللنصارى مثل ذلك، فهلُموا نجعل يوماً نجتمع فيه، فنذكر الله نُصلّي، فقالوا‏:‏ يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى، فاجعلوه يوم الجمعة، فاجتعوا إلى سعد بن زُرارة، فصلَّى بهم ركعتين، وذكَّرهم، فسموه يومَ الجمعة، لاجتماعهم فيه، فأنزل الله آية الجمعة أي‏:‏ بعد ذلك تقريراً لفعلهم، فهي أول جمعة كانت في الإسلام‏.‏ وأما أول جمعة جمعها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فهي لمَا قَدِم المدينةَ مهاجراً، نزل قباء، على بني عَمرو بن عوف، وأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء الأربعاء والخميس، وأسّس مسجدهم، ثم خرج يوم الجمعة عامداً إلى المدينة، فأدركته الصلاة في بني سالم بن عوف، في بطن وادٍ لهم، وقد بنوا هناك مسجداً، فخطب، وصلّى الجمعة فيه‏.‏ انظر الثعلبي‏.‏

ويم الجمعة سيد الأيام، وفي الحديث‏:‏ «مَن مات يوم الجمعة كتب الله له أجر شهيد، ووُقي فتنة القبر»‏.‏

فإذا نُودي للصلاة ‏{‏فاسْعَوا إِلى ذكر الله‏}‏ أي‏:‏ امشوا واحضروا الخطبة والصلاة ‏{‏وذَرُوا البيع‏}‏ أي‏:‏ اتركوا المعاملة كلها، وإنما خص البيع؛ لأنّ يوم الجمعة كان سوقًا يتكاثر فيه البيع والشراء عند الزوال، فقيل لهم‏:‏ بادِروا إلى تجارة الآخرة، واتركوا تجارة الدنيا، ‏{‏واسْعَوا إِلى ذكر الله‏}‏ الذي لا شيء أنفع منه، ‏{‏ذلكم‏}‏ أي‏:‏ السعي إلى ذكر الله ‏{‏خيرٌ لكم‏}‏ من البيع والشراء ‏{‏إِن كنتم تعلمون‏}‏ الخير والشر الحقيقيين، أو‏:‏ إن كنتم من أهل العلم‏.‏

‏{‏فإِذا قُضِيَتِ الصلاةُ‏}‏ أي‏:‏ أُدّيت وفرغ منها ‏{‏فانتشِرُوا في الأرض‏}‏، أمْرُ إباحة، أي‏:‏ اخرجوا لإقامة مصالحكم، ‏{‏وابتغوا من فضل الله‏}‏؛ الرزق، قال ابن عباس‏:‏ «إنما هي عيادة المريض، وحضور الجنائز، وزيارة أخ في الله» ومثله في الحديث، وعن الحسن‏:‏ طلب العلم، وقيل‏:‏ صلاة التطوُّع‏.‏ ‏{‏واذكروا اللهَ كثيراً‏}‏، أي‏:‏ ذكراً كثيراً أو زمناً كثيراً، ولا تخصُّوا ذكره بالصلاة، ‏{‏لعلكم تُفلحون‏}‏ أي‏:‏ كي تفوزوا بخير الدارين‏.‏

‏{‏وإِذا رأَوْا تجارةً أو لهواً انفَضُّوا إِليها‏}‏، رُوي أنّ أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء شديد، فقَدِم دِحْيَة بن خَليفةَ، بتجارة من زيت الشام، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فقاموا إليها؛ خشية أن يُسبقوا إليه، فما بقي معه عليه السلام إلاّ ثمانية، أو اثنا عشر؛ العشرة المبشَّرون بالجنة، وبلال وابن مسعود، وقيل‏:‏ أربعون، وهذا مبنى الخلاف في عدد الجماعة التي تنعقد بهم وتجب عليهم، فقال مالك‏:‏ تنعقد باثني عشر غير الإمام، وتجب على قرية يُمكنهم الإقامة والدفع عن أنفسهم في الغالب، وقال الشافعي‏:‏ أربعون رجلاً وقال أبو حنيفة‏:‏ لا بد من المصر الجامع، والسلطان القاهر، وتصح الصلاة عنده بأربعة‏.‏

ولمّا انفضُّوا قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «والذي نفس محمد بيده لو قاموا جميعاً لأضرم الله عليهم الوادي ناراً» وفي مراسيل أبي داود‏:‏ إنّ الخطبة كانت بعد الصلاة، فتأوّلوا رضي الله عنهم أنهم قد قضوا ما عليهم، فحولت الخطبة بعد ذلك قبل الصلاة‏.‏ ه‏.‏

وكانوا إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق، وهو المراد باللهو‏.‏ وتخصيص التجارة برجْع الضمير إليها؛ لأنها المقصودة، أو لأن الانفضاض إذا كان للتجارة مع الحاجة إليها مذموماً، فما ظنك بالانفضاض إلى اللهو، فهو مذموم في نفسه، وقيل‏:‏ التقدير‏:‏ إذا رأوا تجارة انفضُّوا إليها، أو لهواً انفضُّوا إليه، فحذف الثاني لدلالة الأول عليه‏.‏ وقال أبو حيان‏:‏ وإنما قال‏:‏ «إليها»، ولم يقل‏:‏ إليهما، لأن العطف ب «أو» لا يثنى فيه الضمير، بل يفرد، وقال الطيبي‏:‏ الضمير راجع إلى اللهو، باعتبار المعنى، والسر فيه‏:‏ أنَّ التجارة إذا شغلت المكلّف عن الذكر عُدت لهواً، وتعد فضلاً إن لم تشغله، كما ذكر قبل ذلك، فراجعه‏.‏

‏{‏وتَركُوك قائمًا‏}‏ على المنبر، وفيه ندليل على طلب القيام في الخطبة إلاَّ لعذر‏.‏ ‏{‏قل ما عند الله‏}‏ من الثواب ‏{‏خير من اللهو ومن التجارة‏}‏ فإنَّ في ذلك نفع محقق دائم، بخلاف ما فيهما من النفع المتوهم‏.‏ ‏{‏واللهُ خيرُ الرازقين‏}‏ فإليه اسعوا، ومنه اطلبوا الرزق، أي‏:‏ لا يفوتهم رزق الله بترك البيع، فهو خير الرازقين‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا نُودي لصلاة القلوب في مقام الجمع، من ناحية الداعي إليها، وهم المشايخ العارفون، فاسعوا إلى ذكر الله، ودُوموا عليه باللسان والقلب، ثم بالقلب فقط، ثم بالروح، ثم بالسر، فإنَّ الذكر منشور الولاية، ولا بد منه في البداية والنهاية، قال الورتجبي بعد كلام‏:‏ الساعي إلى الذكر مقام المريدين، والمحقق في المعرفة غلب عليه ذكر الله إياه بنعت تجلِّي نفسه لقلبه‏.‏ ه‏.‏

‏{‏وذّرُوا البيع‏}‏ أي‏:‏ اتركوا كلَّ ما يشغل عن الله، فلا تتجلى الحقائق إلاّ بعد ترك العلائق، ذلكم، أي‏:‏ ترك كل شاغل، خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون، أي‏:‏ إن كنتم من أهل العلم بالله فإذا قُضيت الصلاة فانتشروا في الأرض‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، أي‏:‏ إذا حصل لكم البقاء بعد الفناء؛ فانتشِروا في أرض العبودية، واتسعوا في ميادين البشرية، بالاستمتاع بالشهوات المباحة بالإذن والتمكين، والرسوخ في اليقين، وابتغوا من فضل الله، بالتجارات الرابحة، وهي إرشاد العباد إلى الله، ‏{‏واذكروا الله كثيراً‏}‏ أي‏:‏ في كل شيء وعند كل شيء، برؤية الحق في كل شيء، وإليه تُشير وصيته صلى الله عليه وسلم لمُعاذ بقوله‏:‏

«واذكر الله عند كل حَجر وشجر»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذا رأوا تجارةً أو لهواً انفضُّوا إِليها‏}‏، قال القشيري‏:‏ يشير إلى السالكين المحرومين من الجذبة وهو السالك الأبتر إذا رأوا تجارة، أي‏:‏ طاعة تُوجب ثواب الآخرة، يقومون إليها، ويَثبون عليها، نظراً إلى ثواب الآخرة، كما قال عليه السلام‏:‏ «لا تكونوا كالأجير السوء، إن أُعطي عمل، وإن لم يُعطَ لم يعمل»، أو لهواً أطرب النفس برؤية الطاعة واستِلْذَاذها بنظر الخلق إليها، انفضُّوا إليها وتركوك أيها السالك الحقيقي قائماً بعبودية الحق، ومشاهدة قيوميته، قل‏:‏ ما عند الله من المواهب العالية، والعطايا السنية، خيرٌ من لهو النفس برؤية الغير، ومن التجارات بثواب الآخرة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلآ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِهِ أَحَداً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 110‏]‏ أو‏:‏ ما عند الله نَقْداً للعارفين من واردات القلوب، وبواده الحقيقية، خير مما يؤمل من الدنيا والآخرة للغافلين، والله خير الرازقين، لإعطائه رزق النفس، وهو الطاعة على المنهاج والشرع، ورزق القلب، وهو الأعمال القلبية، كالزهد والورع والرضا والتسليم والمراقبة، والبسط والقبض، والأُنس والهيبة، ورزق الروح بالتجليات والمشاهدات، والمعاينات والتنزُّلات، ورزق السر برفع رؤية الغير والغيرية، ورزق الخفاء بالفناء في الله والبقاء به‏.‏ ه‏.‏ قال الورتجبي‏:‏ فيه تأديب المريدين حين اشتغلوا عن صحبة المشايخ، بخلواتهم وعباداتهم، لطلب الكرامة ولم يعلموا أنَّ ما يجدون في خلواتهم بالإضافة إلى ما يجدون في صحبة مشايخهم لَهْوٌ‏.‏ ه‏.‏ وهو حق‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏ وصلّى الله على سيدنا محمد، عين عيان التحقيق وعلى آله وصحبه وسلّم‏.‏

سورة المنافقون

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ‏(‏1‏)‏ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏2‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إذا جاءك‏}‏ أيها الرسول ‏{‏المنافقون‏}‏ أي‏:‏ حضروا مجلسك، ‏{‏قالوا نشهدُ إِنك لَرسولُ الله‏}‏، أكدوا بإنَّ واللام؛ للإيذان بأنَّ شهادتهم هذه صادرة عن صميم قلبهم، وخلوص اعتقادهم، ووفور رغبتهم ونشاطهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏واللهُ يعلم إِنك لَرسوله‏}‏ حقيقةً، كما يدل عليه ظاهر كلامهم‏.‏ والجملة معترضة بين شهادتهم وتكذيبهم بقوله‏:‏ ‏{‏واللهُ يشهدُ إِنَّ المنافقين لكاذبون‏}‏، وحكمته‏:‏ أنه لو لم يذكره لتوهم أنَّ قوله‏:‏ ‏{‏واللهُ يشهد إِنَّ المنافقين لكاذبون‏}‏ إبطال للرسالة، فوسطه بين حكاية قول المنافقين وبين تكذيبهم؛ ليزيل هذا الوهم، ويُحقق الرسالة‏.‏ وقوله‏:‏ «لكاذبون» أي‏:‏ في ادعائهم أنهم قالوا ذلك عن اعتقاد وصميم قلب، كما يُشير إليه ظاهر قولهم‏.‏ قال القشيري‏:‏ كذَّبهم فيما قالوا‏:‏ إنّا نشهد عن بصيرة، ونعتقد تصديقك، فلم يكذبهم في الشهادة، ولكن كذَّبهم في قولهم‏:‏ إنّا مخلصون مصدِّقون بك‏.‏ ه‏.‏

‏{‏اتخَذوا أيمانَهم‏}‏ الفاجرة ‏{‏جُنَّةً‏}‏؛ وقاية عما يتوجه إليهم من المؤاخذة بالقتل والسبي، وغير ذلك، واتخاذها جُنَّةً عبارة عن إعدادهم وتهيئهم لها إلى وقت الحاجة، ليحلفوا بها، ويتخلّصوا عن المؤاخذة، ‏{‏فصَدُّوا‏}‏ بأنفسهم ‏{‏عن سبيل الله‏}‏ وضلُّوا عن طريق الحق، أو‏:‏ فصّدُّوا مَن أراد الدخول في الإسلام بإلقاء الشُبه، وصدُّوا مَن أراد الإنفاق في سبيل الله بالنهي عنه، كما سيجيء عنهم، ولا ريب أنّ هذا الصدّ منهم متقدم على حلفهم بالفعل، ولذلك عبّر بالاتخاذ‏.‏ ‏{‏إِنهم ساء ما كانوا يعملون‏}‏ من النفاق والصدّ‏.‏ وفي «ساء» معنى التعجب وتعظيم أمرهم للسامعين‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ أي‏:‏ ما تقدّم من قولهم، الناعي عليهم بأنهم أسوأ الناس أعمالاً، أو‏:‏ ما وصف مِن حالهم في النفاق والكذب والاستتار بالأيمان الفاجرة‏.‏ ‏{‏بأنهم‏}‏؛ بسبب أنهم ‏{‏أمنوا‏}‏؛ نطقوا بكلمة الشهادة، كسائر مَن دخل في الإسلام ‏{‏ثم كفروا‏}‏ أي‏:‏ ظهر كفرهم بما شُوهد منهم من شواهد الكفر ودلائله، أو‏:‏ نطقوا بالإيمان عند المؤمنين، ونطقوا بالكفر عند شياطينهم، ‏{‏فطُبعَ على قلوبهم‏}‏؛ ختم عليها، حتى لا يدخلها الإيمان، جزاء على نفاقهم، فتمرّنوا على الكفر، واطمأنوا به، ‏{‏فهم لا يفقهون‏}‏ شيئًا، لا يعرفون حقيَّة الإيمان ولا حقيقته أصلاً‏.‏

الإشارة‏:‏ قد يأتي إلى مشايخ التربية مَن يُنافقهم، طمعًا في الدنيا، فيقول‏:‏ نشهد إنك لَمن العارفين، أو مِن أهل التربية، مثلاً، فَتَجُر الآيةُ ذيلَها عليه، وقد يكون مذبذباً، تارة تلوح له أنوارُ الولاية، وتارة تَستر عنه، فيُصدّق ثم يرجع، ثم يُطبع على قلبه‏.‏ قال القشيري‏:‏ ‏{‏ذلك بأنهم آمنوا‏}‏‏:‏ استضاؤوا بنور الإجابة، فلم يَنْبَسِطْ عليهم شعاعُ نور السعادة، فانطفأ نورُهم بقَهْرِ الحرمان، وبَقوا في ظلمة القسمة السابقة بحكم الشقاوة‏.‏ ه‏.‏ وهنا إشارة أخرى للقشيري، وهو‏:‏ إذا جاءك أيها الروح الصافية منافق الهوى والنفس الأمّارة، قالوا‏:‏ نشهد إنك لَرسول الله، أي‏:‏ كاملة صافية، يُريدون بذلك توقفها عن الترقي باستحسان ما أدركت، والوقوف معه، والله يعلم إنك لَرسوله، حين تصفى، فتكون محل العِلم الرباني، والوحي الإلهامي، والله يشهد إنهم لكاذبون في ادعاء الشهادة بلا حقيقة، اتخذوا أيمانهم جُنَّة، لئلا تكرّ عليهم بأنوارها، فتُخرجهم عن عوائدهم وشهواتهم، فصُدُّوا عن سبيل الله، حيث بقوا مع عوائدهم، أو‏:‏ فصدُّوا الروح إن صدقتهم وطاوعتهم، ذلك بأنهم أمنوا، حيث ترد عليهم أنوار الواردات، ثم كفروا؛ رجعوا إلى وطنهم، من الحظوظ، حيث تخمد أنوار الواردات عنهم، فطُبع على قلوبهم، حيث وقفوا مع عوائدهم فهم لا يفقهون‏:‏ لا يعرفون سر إيجادهم، ولا لماذا خُلقوا‏.‏

ه‏.‏ بالمعنى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وإِذا رأيتهم تُعْجِبُكَ أجسامُهم‏}‏ لضخامتها، ويروقك منظرُهم؛ لصباحة وجوههم، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، أو‏:‏ لكل سامع، ‏{‏وإِن يقولوا تسمعْ لِقَولهم‏}‏ لفصاحتهم، وذلاقة ألسنتهم، وحلاوة كلامهم، وكان ابن أُبي رجلاً جسيماً صبيحاً، وقوم من المنافقين في مثل صفته، فكانوا يحضرون مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم، ويستندون فيه، ولهم جهارة المناظرة، وفصاحة الألسن، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ومَن معه يُعجبون بهم، ويسمعون إلى كلامهم‏.‏ ‏{‏كأنهم خُشُب مُسَنَّدةٌ‏}‏ أي‏:‏ هم كخشب مُسَنَّدة، شُبِّهوا في جلوسهم في مجلس الرسول صلى الله عليهم وسلم مستندين فيها بخُشب منظومة، مسندة إلى الحائط، في كونهم أشباحاً خاليه من العلم والخير؛ لأنّ الخشب إذا انتُفع بها كانت في سَقفٍ، أو جدارٍ، أو غير ذلك من مظان الانتفاع، وما دام متروكاً غير منتفع به، أُسند إلى الحائط فشُبِّهوا به في عدم الانتفاع‏.‏ أو‏:‏ لأنهم أشباح بلا أرواح، وأجرام بلا أحلام‏.‏ و«خُشُب» بضمتين، جمع خَشبة، كَثمرة وثُمُر، ويسكن، كبَدنة وبُدن‏.‏

‏{‏يحسبون كلَّ صيحةٍ‏}‏ واقعة ‏{‏عليهم‏}‏، ف «كل»‏:‏ مفعول أول، و«عليهم»‏:‏ مفعول ثان، أي‏:‏ يظنون كلَّ صيحة واقعة عليهم لاستقرار الرعب في قلوبهم، فإذا نادى منادٍ في العسكر، أو انفلتت دابة، أو نُشِدت ضالّة؛ ظنوه إيقاعاً بهم‏.‏ ‏{‏هم العدوُّ‏}‏ أي‏:‏ الكاملون في العداوة، الراسخون فيها، فإنّ أعدى الأعادي المكاشِر، الذي يُكاشر وتحت ضلوعه الداء‏.‏ فالألف واللام للجنس، أو‏:‏ للعهد، أي‏:‏ العدو الذي يشهد لك، ويعتقد خلاف ما يشهد، ‏{‏فاحْذرهم‏}‏ ولا تغتر بحلاوة منطقهم، ‏{‏قاتلهم اللهُ‏}‏، دعاء عليهم، أو‏:‏ تعليم للمؤمنين أن يدعوا عليهم، ‏{‏أنى يُؤفكون‏}‏ أي‏:‏ كيف يعدلون عن الحق بعد وضوحه، تعجُّباً من جهلهم وضلالتهم‏.‏

الإشارة‏:‏ لا عبرة بالأجسام العريضة، ولا بالألسن الفصيحة، إنما العبرة بالقلوب المطهرة، والسرائر المنورة، «إن الله لا ينظر إلى صوركم‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث، و«رُبَّ أشعثَ أغبر، مدفوعٍ بالأبواب، لو أقسمَ على الله لأبَرَّه في قسمه» قال القشيري‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا رأيتهم‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، أي‏:‏ هم أشباح وقوالب، ليس وراءهم ألبابُ وحقائق، والجوزُ الفارغ يؤنق ظاهره، ولكن للعب الصبيان‏.‏ ه‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

وما الحسنُ في وجه الفتى شرفاً له *** إذا لم يكن في فعله والخلائق

وقالت العامة‏:‏ لا يتكلم إلاَّ الجوز الفارغ، ذمًّا لشقشقة اللسان، وفي الحديث أيضاً ذمهم والتحذير منهم‏.‏ أما قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «التمسوا حوائجكم عن حِسَان الوُجُوه» فإنما المراد‏:‏ ما يظهر على الوجه من البهجة والنور، والخفة والملاحة، مما خامر الباطن من بشاشة الإيمان ونور المعرفة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 8‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ‏(‏5‏)‏ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏6‏)‏ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏7‏)‏ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وإِذا قيل لهم‏}‏ عند ظهور نفاقهم‏:‏ ‏{‏تعالَوا يستغفر لكم رسولُ الله لَووا رؤوسَهم‏}‏ أي‏:‏ عطفوا استكباراً‏.‏ وقرأ غير نافع بالتشديد للمبالغة‏.‏ ‏{‏ورأيتهم يصُدُّون‏}‏ أي‏:‏ يُعرضون عن القائل، أوعن الاستغفار، ‏{‏وهم مستكبرون‏}‏ عن الاعتذار والاستغفار‏.‏

رُوي أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حين لقي بني المصطلق على المُرَيْسيع وهوماءٌ لهم وهزمهم، وقتلهم، ازدحم على الماء «جهجاه» أجير لعُمر مع سِنانٍ حليف لعبد الله بن أُبيّ المنافق فصرخ جهجاه‏:‏ يا للمهاجرين‏!‏ وصرخ سنان‏:‏ يا للأنصار‏!‏ فأعان جَهْجَاهاً جُعال من فقراء المهاجرين، ولطم سناناً، فقال ابنُ أُبيّ‏:‏ أُوَقد فعلوها، وقال‏:‏ وما صحبنا محمداً إلا لنُلطَم‏!‏ وما مثلنا ومثلهم إلاَّ كما قائل القائل‏:‏ سمِّن كلبك يَأكُلْكَ‏!‏ والله لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعزُّ منها الأذلَّ‏.‏ ثم قال لقومه‏:‏ كُفوا طعامكم عن هذا الرجل، ولا تُنفقوا على مَن عنده حتى ينفضُّوا ويتركوه، فسمع ذلك زيدُ بن أرقم، وكان حدثاً، فقال‏:‏ أنت والله الذليلُ، المبَغَّضُ في قومك، ومحمد على رأسه تاج المعراج، في عزّ من الرحمن، وقوةٍ من المسلمين، فقال عبدالله‏:‏ اسكت، فإنما كنتُ ألعب، فأخبر زيدٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ دعني أضرب عنقَ المنافق‏!‏ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذن تُرْعَدُ أنوفٌ كثيرة بيثرب» قال‏:‏ فإن كرهت أن يقتله مُهاجريّ، فمُر به أنصاريًّا، فقال‏:‏ «فكيف إذا تحدّث الناسُ أنّ محمداً يقتل أصحابه‏؟‏» فأرسل صلى الله عليه وسلم له، فأتى، فقال‏:‏ «أنت صاحب الكلام الذي بلغني» ‏؟‏ فقال‏:‏ والذي أنزل عليك الكتاب ما قلتُ شيئاً من ذلك، وإنّ زيداً لكاذب، وهو قوله‏:‏ ‏{‏اتخَذوا أَيمانهم جُنَّة‏}‏ فقال الحاضرون‏:‏ يا رسول الله‏!‏ شيخُنا وكبيرُنا، لا تُصدق عليه كلام غلام، عسى أن يكون قد وَهم، قال زيد‏:‏ فوجدتُ في نفسي، ولآمَنِي الناسُ، فلزمتُ بيتي، فلما نزلت الآية، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لزيد‏:‏ «يا غلام إنَّ الله قد صَدَّقك وكذّب المنافقين»، فلما بان كذب عبدالله؛ قيل له‏:‏ قد نزلت فيك آيٌ شِدادٌ، فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك، فلوى رأسه، وقال‏:‏ أمرتموني أن أومن فآمنتُ، وأمرتموني أن أزكي مَالي، فزكّيتُ، ما بقي لي إلاّ أن أسجد لمحمد، فنزل‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم تعالوا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، وما بقي إلاّ أياماً حتى اشتكى ومات‏.‏ قاله النسفي، فانظره، مع أنّ سورة براءة متأخرة عن هذه، وفيها‏:‏ ‏{‏وَلآ تُصَلِ عَلَى أَحَدٍ مّنْهُم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 84‏]‏ التي نزلت فيه‏.‏

قالت تعالى‏:‏ ‏{‏سواءٌ عليهم أّسْتغفَرتَ لهم أم لم تستغفرْ لهم‏}‏، أي‏:‏ لا مساغ للنصح فيهم، ‏{‏لن يغفر اللهُ لهم‏}‏ أي‏:‏ ما داموا على النفاق‏.‏

والمعنى‏:‏ سواء عليهم الاستغفار وعدمه؛ لأنهم لا يلتفتون إليه، ولا يعتدون به؛ لكفرهم، أو لأنّ الله لا يغفر لهم أبداً، ‏{‏إِنَّ اللهَ لا يهدي القوم الفاسقين‏}‏؛ لإصرارهم على الفسق، ورسوخهم في الكفر والنفاق‏.‏ والمراد‏:‏ إما هم بأعيانهم، والإظهار في موضع الإضمار لبيان غلوهم في الفسق، أو‏:‏ الجنس، وهم داخلون في زمرتهم دخولاً أولياً‏.‏

‏{‏هم الذين يقولون‏}‏ للأنصار‏:‏ ‏{‏لا تُنفقوا على مَن عند رسول الله حتى ينفضوا‏}‏؛ يتفرقوا، وهذه المقالة كانت السبب في استدعائه إلى الاستغفار، كما تقدّم، فحقها التقديم قبل قوله‏:‏ ‏{‏وإِذا قيل لهم تعالوا‏}‏ وإنما أُخرت ليتوجه العتاب إليه مرتين، كما تقدّم في سورة البقرة‏.‏

ثم قال تعالى، في الرد على الخبيث‏:‏ ‏{‏ولله خزائنُ السموات والأرض‏}‏، فهو رد وإبطال لما زعموا من أنَّ عدم إنفاقهم يؤدي إلى انفضاض الفقراء من حوله صلى الله عليه وسلم ببيان أنَّ خزائن الأرزاق بيد الله تعالى خاصة، يُعطي مَن يشاء، ويمنع مَن يشاء، فيرزق منها المهاجرين، وإن أمسك أهلُ المدينة عنهم، ‏{‏ولكنَّ المنافقين لا يفقهون‏}‏؛ ولكن عبد الله وأضرابه لايفقهون ذلك فيهتدون، بما يُزيِّن لهم الشيطان‏.‏

‏{‏يقولون لئن رجعنا‏}‏ من غزوة بني الصطلق ‏{‏إِلى المدينة ليُخْرِجَنَّ الأعَزُّ منها‏}‏ يعني‏:‏ نفسه لعنه الله ‏{‏الأذلَّ‏}‏ يعني‏:‏ جانب المؤمنين، وإسناد القول بذلك إلى المنافقين؛ لرضاهم به، فردّ تعالى عليهم ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وللهِ العِزَّةُ ولرسوله وللمؤمنين‏}‏ أي‏:‏ ولله الغلبة والعزّة، ولِمن أعزّه من رسوله والمؤمنين، لا لغيرهم، كما أنَّ المَذلة والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين‏.‏ وعن بعض الصالحات، وكانت في هيئة رثّة من الفقر‏:‏ ألستُ على الإسلام، وهو العزّ الذي لا ذُلّ معه، والغنى الذي لا فقر معه‏؟‏ وعن الحسن بن عليّ رضي الله عنه‏:‏ أنّ رجلاً قال له‏:‏ إنَّ فيك تيهاً‏؟‏ قال‏:‏ ليس بتيه، ولكنه عزّة، وتلا هذه الآية‏.‏ ه‏.‏

‏{‏ولكنَّ المنافقينَ لا يعلمون‏}‏ ذلك؛ لفرط جهلهم وغرورهم، فيهذون ما يهذون‏.‏ رُوي أنَّ ولد عبدالله بن أُبيّ، واسمه عبدالله، وكان رجلاً صالحاً، لَمَّا سمع الآية جاء إلى أبيه، فقال له‏:‏ أنت والله يا أبت الذليل، ورسول الله العزيز، ووقف على باب السكة التي يسلكها أبوه، وجرّد السيف، ومنعه الدخول، وقال‏:‏ والله لا دخلتَ منزلك إلاَّ أن يأذن في ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الله في أذل حال، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فبعث إليه‏:‏ «أن خَلِّه يمضي إلى منزله، وجزاه خيراً» فقال‏:‏ الآن فنعم‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ مَن تكبّر عن حط رأسه للأكابر ففيه خصلة من النفاق، والمراد بالأكابر‏:‏ الأولياء العارفون بالله، مَن تكبّر عنهم مات، وفيه بقية مِن النفاق، إذ لا يخلو منه إلاّ بالتطهير الكبير على أيدي المشايخ، وكذلك مَن منع الناس مِن الإنفاق على أهل النسبة، كائناً ما كانوا، فشُؤمه الحرمان من نسيم أهل الوصلة، ‏{‏وللّه خزائن السماوات والأرض‏}‏ أي‏:‏ خزائن الأرزاق الحسية والمعنوية، فقد يُعطي أحدهما دون الآخر، وقد يعطيهما معاً، أو‏:‏ يمنعهما معاً، على حسب المشيئة، قال رجل لحاتم الأصم‏:‏ من أين تأكل‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏وللّه خزائن السماوات والأرض‏}‏ وقال الجنيد‏:‏ خزائن السماوات‏:‏ الغيوب، وخزائن الأرض‏:‏ القلوب، وهم علاّم الغيوب، ومُقلِّب القلوب‏.‏

وكان الشبلي يقرأ‏:‏ ‏{‏وللّه خزائن السماوات والأرض‏}‏ ويقول‏:‏ فأين تذهبون‏.‏ ه‏.‏ أي‏:‏ حين تهتمون بالرزق بعد هذه الآية‏.‏

‏{‏ولله العزةُ ولرسوله وللمؤمنين‏}‏، قال بعضهم‏:‏ عزة الله‏:‏ قهره، وعزته لرسوله‏:‏ إظهاره، وعزتُه للمؤمنين‏:‏ نصره إياهم على مَن آذاهم‏.‏ وقيل‏:‏ عزة الله‏:‏ الولاية ‏{‏هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 44‏]‏، وعزة الرسول‏:‏ الكفاية والعناية، وعزة المؤمنين‏:‏ الرفعة والرعاية، وقيل‏:‏ عزة الله‏:‏ الربوبية، وعزة الرسول‏:‏ النبوة، وعزة المؤمنين‏:‏ العبودية، فإذا أردتَ أيها العبد أن تكون عزيزاً فارفع همتك عن الخلق، وسُد باب الطمع، وتحلَّ بحلية الورع‏.‏ قال بعضهم‏:‏ والله ما رأيتُ العزّ إلاَّ في رفع الهمة عن الخلق، وقال آخر‏:‏ ما قُذِّر لماضغيك أن يمضغاه فلا بدّ أن يمضغاه، فامضغه ويحك بعز، ولا تمضغه بذل‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 11‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏9‏)‏ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏10‏)‏ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تُلهكم أموالكُم‏}‏ أي‏:‏ لايشغلكم الاهتمام بتدبير أمورها، والاعتناء بمصالِحها، والتمتُّع بها، ‏{‏ولا أولادُكم‏}‏ أي‏:‏ سروركم بهم، وشفقتكم عليهم، والاستغراق في الأسباب، للنفقة عليهم ‏{‏عن ذكر الله‏}‏ أي‏:‏ عن الاشتغال بذكره عزّ وجل، من الصلاة، والذكر، وسائر العبادات، والمراد‏:‏ نهيهم عن التلهي بها، وتوجيه النهي لهم للمبالغة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلآ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَآنُ قَوْمٍ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏، ‏{‏ومن يفعل ذلك‏}‏ أي‏:‏ التلهي بالدنيا عن الدين ‏{‏فأولئك هم الخاسرون‏}‏؛ الكاملون في الخسران، حيث باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني‏.‏

‏{‏وأَنفِقوا مِن مَّا رزقناكم‏}‏ أي‏:‏ بعض ما رزقناكم، تفضُّلاً، من غير أن يكون حصوله من جهتكم ادخاراً للآخرة، وهو عام في المفروض والمندوب، ‏{‏مِن قبل أن يأتي أحدَكُم الموتُ‏}‏ بأن يُشاهد دلائله، ويُعاين أمارته ومخايله‏.‏ وتقديم المفعول على الفاعل للاهتمام بما قدّم، والتشويق لِما أخّر، ‏{‏فيقولَ‏}‏ حين تَيَقُنِه بحلوله‏:‏ ‏{‏لولا أخَّرتني‏}‏؛ أمهلتني ‏{‏إلى أجلٍ قريب‏}‏؛ أمدٍ قصيرٍ، ‏{‏فأصَّدَّقَ‏}‏ بالنصب جواب التمني ‏{‏وأكن من الصالحين‏}‏ بالجزم، عطفاً على محل ‏{‏فأصَّدق‏}‏ أو‏:‏ على توهُّم إسقاط الفاء، كأنه قيل‏:‏ إن أخرتني أصَّدَّق وأكن، وقرأ أبو عمرو بالنصب عطفاً على اللفظ‏.‏

‏{‏ولن يُؤخر اللهُ نفساً‏}‏؛ لن يمهلها ‏{‏إِذا جاء أجَلُهَا‏}‏؛ آخر عُمْرِها المكتوب في اللوح‏.‏ ‏{‏واللهُ خبير بما تعملون‏}‏ فيُجَازيكم عليه، إن خيراً فخير، وإن شرًّا فشر، فسارعوا إلى الخيرات، واستعِدوا لما هو آت‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ما قصَّر أحد في الزكاة والحجِّ إلاَّ سأل الرجعة عند الموت‏.‏ ه‏.‏ والظاهر‏:‏ أنَّ كل مَن قصَّر في الاجتهاد، وتعمير الأوقات، كله يطلب الرجعة، وكل مَن أدركته المنية قبل الوصول إلى الله مغبون، ولذلك ذكر التغابن بعدها، وفي الحديث‏:‏ «ما مِن أحدٍ إلاَّ سيندم عند الموت، إن كان عاصياً أن لو تاب، وإن كان طائعاً أن لو زاد» أو كما قال صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال في غريب المنتقى‏:‏ إنّ العبد يقول عند كشف الغطاء‏:‏ يا ملك الموت أَخِّرني يوماً أعتذر فيه إلى ربي، وأتوب وأتزوّد صالحاً لنفسي، فيقول المَلك‏:‏ فَنيت الأيامُ، فلا يوم، فيقول‏:‏ أخَّرني ساعة، فيقول‏:‏ فَنِيَت الساعات فلا ساعة‏.‏ ه‏.‏

قيل‏:‏ لمَّا كانت سورة المنافقين رأس ثلاث وستين سورة، أُشير فيها إلى وفاته صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولن يُؤخر اللهُ نفساً إِذا جاء أجلها‏}‏ فإنه صلى الله عليه وسلم مات على رأس ثلاث وستين سنة وعقبها بالتغابن، ليظهر التغابن في فقده صلى الله عليه وسلم‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ قد نهى الله تعالى عن الاشتغال عن ذكره بالأموال والأولاد، ويُقاس عليه سائر القواطع، فلا عذر للعبد في تركه في وقت من الأوقات، فما مِن وقت من الأوقات إلاَّ وله حق جديد، وأمر أكيد، لا يُقضى في غيره، فحقوق الأوقات لا تقضى، بخلاف الحقوق التي لها أوقات محدودة، فإنها تُقضى في غيرها، ولمّا كان الذِكر يُطهِّر القلب، ويُخرج ما فيه من حب الدنيا وغيرها، أمر بالإنفاق بعد الأمر به؛ ليسهل الإنفاقَ على العبد‏.‏

قال بعض الحكماء في مدح الذكر والترغيب فيه‏:‏ الذكر منشور الولاية، ولا بُد منه في البداية والنهاية، وهو يُثمر أحوالاً شريفة، وماقامات عالية منيفة، وعلوماً لطيفة، ويحيي عوالم طالما كانت قَبْلُ مواتاً، ويُلبِسُ النفسَ وجنودَها ذلة وسُبَاتاً، ونظيره إذا وصل للقلب‏:‏ كدخول الماء في الأسراب، فإنه يُخرج ما فيها من الحشرات والدواب، فكذلك الذكر، إذا صدم القلب، ودخل سُويداءه، فإنه يُخلصه مِن مساكنة صلصال النفس، ويُزيل عن ناظره الغشاوة واللبس، ولهذا كان أفضل الأعمال، وأزكى الأحوال وفُضّل على جهاد السيف والقتال‏.‏ ه‏.‏ وأنفِقوا مما رزقناكم من العلوم والمعارف، لمَن يطلبها وكان أهلاً لها، بعد إنفاق ما عنده من الحس، وإلاَّ فلا خير في فقير شحيح، فإنه مِن أقبح كل قبيح‏.‏ فانتهزوا الفرصة، وبادِروا نفوذ الأجل، فالترقي إنما تهو في هذه الدار‏.‏ قال القشيري‏:‏ لا تَغْتَرُّوا بسلامةِ أوقاتِكم، وتَرَقَّبوا بغَتَات آجالكم، وتأهَّبوا لِما بين أيديكم من الرحيل، ولا تعرجوا في أوطان التسويف‏.‏ ه‏.‏ وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم‏.‏

سورة التغابن

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏1‏)‏ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏2‏)‏ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ‏(‏3‏)‏ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏4‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يُسبِّح لله ما في السماوات وما في الأرض‏}‏ أي‏:‏ يُنزّهه سبحانه جميعُ ما فيهما من المخلوقات عما لا يليق بجناب كبريائه، قال القشيري‏:‏ المخلوقات بجملتها مُسَبِّحةٌ لله، ولكن لا يَسْمَعُ تسبيحَها مَن فيه طَرَشُ النكرة‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏له الملكُ وله الحمدُ‏}‏ لا لغيره؛ إذ هو المبدىء لكلّ شيء، وهو القائم به، والمهيمن عليه، وهو المُولي لأصول النِعم وفروعها، وأمّا ملك غيره فاسترعاء من جنابه، وحمد غيره اعتداد بأنّ نعمة الله جرت على يديه‏.‏ فتقديم الظرفين للاختصاص‏.‏ ‏{‏وهو على كل شيءٍ قديرٌ‏}‏؛ لأنّ نسبة ذاته المقتضية للقدرة إلى كل سواء‏.‏

‏{‏هو الذي خَلَقَكُم‏}‏ خلقاً بديعاً، حائزاً لجميع الكمالات العلمية والعملية، ومع ذلك ‏{‏فمنكم كافرٌ‏}‏ أي‏:‏ فبعض منكم مختار للكفر كاسباً له، على خلاف ما تستدعيه خِلقته، ‏{‏ومنكم مؤمن‏}‏ مختار للإيمان، كاسباً له، على حسب ما تقتضيه خِلقته، وكان الواجب عليكم جميعاً أن تكونوا مختارين للإيمان، شاكرين لنِعم الخلق والإيجاد، وما يتفرّع عليهما من سائر النِعم، فما فعلتُم ذلك مع تمام تمكُّنكم منه، بل تشعّبتم شعباً، وتفرقتم فِرَقاً‏.‏ وتقديم الكفر لأنه الأغلب والأنسب للتوبيخ‏.‏ قال القشيري‏:‏ ‏{‏فمنكم كافر ومنكم مؤمن‏}‏ أي‏:‏ في سابق علمه سمَّاه كافراً، لعلمه أنه يكفر، وكذلك المؤمن‏.‏ ه‏.‏ قال أبو السعود‏:‏ حَمْله على ذلك مما لا يليق بالمقام، فانظره‏.‏ ‏{‏واللهُ بما تعملون بصير‏}‏ فيُجازيكم بذلك، فاختاروا منه ما ينفعكم من الإيمان والطاعة، وإياكم وما يرديكم من الكفر والعصيان‏.‏

‏{‏خَلَقَ السماوات والأرضَ بالحق‏}‏؛ بالحكمة البالغة، المتضمنة للمصالح الدينية والدنيوية، حيث جعلها مقرًّا للمكلّفين ليعملوا فيُجازيهم، ‏{‏وصوَّركم فأّحْسَن صُوَركم‏}‏ حيث أنشأكم في أحسن تقويم، وأودع فيكم من القُوى والمشاعر الظاهرة والباطنة، ما نيط بها جميع الكمالات البارزة والكامنة، وخصَّكم بخلاصة خَصائص مُبدعاته، وجعلكم أنموذجَ جميع مخلوقاته، فالكائنات كلها منطوية في هذه النشأة‏.‏

قال النسفي‏:‏ أي‏:‏ خلقكم أحسن الحيوان كلّه، وأبهاه، بدليل‏:‏ أنّ الإنسان لا يتمنّى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور، ومِن حُسن صورته‏:‏ أنه خلق منتصباً غير منكبٍّ، ومَن كان دميماً، مشوّه الصورة، سمج الخلقة، فلا سماجة ثمَّ، ولكن الحسن على طبقات، فلانحطاطها عمّا فوقها لا تستملح، ولكنها غير خارجة عن حدّ الحُسن‏.‏ وقال الحكماء‏:‏ شيئان لا غاية لهما‏:‏ الجمال والبيان‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ وما أشار إليه هو الذي نظمه الجيلاني في عينيته، حيث قال‏:‏

وكُلُّ قبيحٍ إن نَسَبْتِ لحُسْنِه *** أتتك معاني الحُسْنِ فيه تُسارعُ

يُكَمِّل نُقصانَ القبيحِ جَمَالُه *** فما ثَمَّ نُقصانٌ‏.‏ ولا ثَمَّ بَاشِعُ

‏{‏وإِليه المصيرُ‏}‏ في النشأة الأخرى، لا إلى غيره، فأحسِنوا سرائركم، باستعمال تلك القوى والمشاعر فيما خُلقن له‏.‏

‏{‏يعلمُ ما في السماوات والأرض ويعلم ما تُسِرُّون وما تُعلنون‏}‏ أي‏:‏ ما تُسرونه فيما بينكم، وما تُظهرونه من الأمور، والتصريح به مع اندراجه فيما سبق قبله؛ لأنه الذي يدور عليه الجزاء، ففيه تأكيد للوعد والوعيد، وتشديد لهما‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واللهُ عليم بذاتِ الصُدور‏}‏‏:‏ تذييل لِما قبله، ومُقَرِّر له، من شمول علمه تعالى لسِرِّهم وعلنهم، أي‏:‏ هو محيط بجميع المضمرات المستكنة في صدور الناس، بحيث لا يُفارقها أصلاً، فكيف يخفى عليه ما يُسرونه وما يُعلنونه، فحق أن يُتقى ويُحذر‏.‏ وإظهار الجلالة للإشعار بعلية الحكم، وتأكيد استقلال الجملة‏.‏ قيل‏:‏ وتقدّم تقرير القدرة على تقرير العلم؛ لأنّ دلالة المخلوقات على قدرته تعالى بالذات، وعلى علمه بما فيها من الإتقان والاختصاص ببعض الأوصاف، وكل ما ذكره بعد قوله‏:‏ ‏{‏فمنكم كافر ومنكم مؤمن‏}‏ في معنى الوعيد على الكفر، وإنكار أن يُعصى الخالق ولا تُشكر نِعَمه‏.‏

قال الطيبي‏:‏ الفاء في «فمنكم» تفصيلية، والآية كلها واردة لبيان عظمة الله في مُلكِه وملكوته، وذلك أنه تعالى لمّا أثبت لذاته الأقدس التنزيه، وأنّ كل شيء ينزهه ويُقدّسه عما لا يَليق بجلاله، ثم خصّ أنه لوصفه بالمالكية على الإطلاق، وكل كمال وجمال ونعمةٍ وإفضال منه، وهو خالق كل مهتدٍ وضال، ونظم دليل الآفاق مع ليل الأنفس، وبيّن أنَّ إليه المصير، ختم ذلك بإثبات العلم الشامل للكليات والجزئيات، وكرره تكريراً، وأكّده توكيداً، وكأنَّ ذكر العلم في قوله‏:‏ ‏{‏والله بما تعملون بصير‏}‏ استطراد لذكر الخلق وتفصيله، ولإثبات القضاء والقدر، ولمّا فرغ من بيان العظمة جاء بالتهديد والوعيد، وقال‏:‏ ‏{‏ألم يأتكم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ هو الذي خلقكم، فمنكم كافر بطريق الخصوص، ومنكم مؤمن بها، داخل فيها، أي‏:‏ فمنكم عام ومنكم خاص‏.‏ قال القشيري‏:‏ فمنكم كافرٌ، أي‏:‏ سائر للحق بالخلق، ومنكم مؤمن، أي‏:‏ مُصدِّقٌ بظهور الحق في الخلق‏.‏ ثم قسَّم الناسَ على ثلاثة‏:‏ مَن لا يرى إلاّ الخلق، وهم أهل الفرق، ومَن لا يرى إلاّ الحق، وهم أهل الجمع، ومَن يرى الحق في الخلق، والخلق في الحق، لا يحجبه أحدُهما عن الآخر، فهم أهل جمع الجمع‏.‏

خَلَقَ سماواتِ الأرواح ليُعرف بها، وأرض الأشباح ليُعبد بها، وهو الواحد الأحد، وصوَّركم فأحسن صُورَكم، حيث جعلها جامعة للعوالم العلوية والسفلية؛ لأنَّ الله تعالى خلق آدم على صورته، وذاته المقدسة جامعة لمظاهر الصفات والأسماء، وتلك المظاهر كلها مجموعة في الصور الآدمية، بخلاف سائر الكائنات، فما في صورتها إلآَّ بعض الأسماء والصفات، فتأمّله‏.‏ وإليه المصير، أي‏:‏ وإلى ذاته ترجع جميع الصور والأشكال، فما خرج شيء عن إحاطة الذات والصفات، يعلم ما تُسرُّون من العقائد الصحيحة، وما تُعلنون من العبادات الخالصة، أو‏:‏ ما تُسرُّون من الكشوفات الذوقية، وما تُعلنون من العبودية الاختيارية، هذا في خاصة أهل الظاهر وأهل الباطن، أو‏:‏ ما تُسرُّون من العقائد الفاسدة، وما تُعلنون من الأعمال الخبيثة، أو‏:‏ ما تُسرُّون من الاتحاد أو الحلول، وما تعلنون من العمل والمعلول، وهذا في طالحي الفريقين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 7‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏5‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ‏(‏6‏)‏ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ لكفار مكة ‏{‏ألم يأتكم نبأُ الذين كفروا من قبلُ‏}‏ ‏؟‏ كقوم نوح، ومَن بعدهم من الأمم المُصرَّة على الكفر، ‏{‏فذاقوا وبالَ أمرهم‏}‏ أي‏:‏ شؤم كفرهم في الدنيا من الهلاك والاستئصال‏.‏ والوبالُ‏:‏ الثقل والشدة، وأمرهم‏:‏ كفرهم، عبّر عنه بالأمر إيذاناً بأنه أمر هائلٌ، وجناية عظيمة، و«ذاقوا» عطف على «كفروا» أي‏:‏ ألم يأتكم خبر الذين كفروا فذاقوا من غير مهلة ما يسْتتبعُهُ كفرهم في الدنيا‏؟‏ ‏{‏ولهم في الآخرة عذابٌ أليم‏}‏ لا يُقادَر قدره‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ أي‏:‏ ما ذكر من العذاب الذي ذاقوه في الدنيا، وما سيذوقونه في الآخرة ‏{‏بأنه‏}‏؛ بسبب أن الشأن ‏{‏كانت تأتيهم رُسُلهم بالبينات‏}‏؛ بالمعجزات الظاهرة، ‏{‏فقالوا أَبَشَرٌ يهدوننا‏}‏ أي‏:‏ قال كلُّ قوم من المذكورين في حق رسولهم الذي أتاهم بالمعجزات منكرين كون الرسول من البشر، متعجبين من ذلك ‏{‏أَبَشرٌ‏}‏ مِن جنس البشر ‏{‏يهدوننا‏}‏، أنكروا رسالة البشر، ولم ينكروا عبادةَ الحجر، ‏{‏فكفروا‏}‏ بالرسل ‏{‏وتَوَلَّوا‏}‏ عن التدبُّر فيما أتوا به من البينات، أو‏:‏ عن الإيمان بهم، ‏{‏واستغنى اللهُ‏}‏ أي‏:‏ أظهر استغناءه عن إيمانهم وطاعتهم، حيث أهلكهم وقطع دابرهم، ولولا استغناؤه تعالى عنها ما فعل ذلك، ‏{‏والله غنيٌّ‏}‏ عن العالمين، فضلاً عن إيمانهم وطاعتهم، ‏{‏حميدٌ‏}‏ يحمده كلُّ مخلوقٍ بلسان الحال والمقال، أو‏:‏ مستحق للحمد بذاته، وإن لم يحمده حامد‏.‏

ثم ذكر كفرهم بالبعث، فقال‏:‏ ‏{‏زَعَمَ الذين كفروا أن لن يُبعثوا‏}‏، الزعم‏:‏ ادّعاء العلم، فيتعدّى إلى مفعولين، سدّ مسدهما «أن» المخففة، أي‏:‏ أدّعى أهل مكة أنّ الشأن لن يُبعثوا بعد موتهم، ‏{‏قل بلى وربي لَتُبعثن‏}‏، ردًّا لزعمهم وإبطالاً لِما نفوه مؤكَّداً بالقسم، فإن قلْتَ‏:‏ ما معنى اليمين على شيء أنكروه‏؟‏ قلتُ‏:‏ هو جائز؛ لأنّ التهديد به أعظم موقعاً في القلب، فكأنه قيل‏:‏ ما تنكرونه والله إنه لواقع لا محالة، ‏{‏ثم لتُنبَّؤنَّ بما عَمِلتم‏}‏ أي‏:‏ لتُحاسبن وتُجزون بأعمالكم، ‏{‏وذلك‏}‏ أي‏:‏ ما ذكر من البعث والحساب ‏{‏على الله يسيرٌ‏}‏ هيّن، لتحقق القدرة التامة، وقبول المادة للإعادة‏.‏

الإشارة‏:‏ ألم يأتكم يا معشر المنكِرين على أولياء زمانكم، خبر مَن أنكر قبلكم، ذاقوا وبالَ أمرهم حيث ماتوا محجوبين عن شهوده، مطرودين عن ساحة قربه، ذاقوا وبال أمرهم في الدنيا؛ الجزع والهلع وتسليط الخواطر والشكوك، ولهم في الآخرة عذاب البُعد والحِجاب، وسبب ذلك‏:‏ إنكار الخصوصية عند بشر مثلهم، فكفروا به، وتولَّوا عنه، والله غني عنهم، وعن توجههم، وعن جميع الخلق، زعم الذين كفروا؛ ستروا الحق بالخلق، أي‏:‏ احتجبوا بالخلق عن شهود الحق، أن لن يُبعثوا على معتقدهم، قل‏:‏ بلى وربي لتُبعثن، كما عشتم محجوبين عن رؤية الحق إلاّ نادراً؛ لأنَّ العبد يموت على ما عاش، ويُبعث على ما مات، من معرفةٍ أو نكران، ثم لتُحاسبن على أعمالكم، لا يغادَر منها صغيرة ولا كبيرة، بخلاف العارفين، لا يُرفع لهم ميزان، ولا يتوجه لهم حساب، حيث فَنوا عن أنفسهم، وبقوا بالله، وهم من السبعين ألفاً‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 10‏]‏

‏{‏فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏8‏)‏ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏9‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الفاء في قوله ‏{‏فأمِنوا‏}‏ فصيحة، مفصحة عن شرط مقدّر، أي‏:‏ إذا كان الأمر كما ذكرنا من وقوع البعث لا محالة فآمِنوا وتأهّبوا له‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فآمِنوا بالله ورسوله‏}‏ محمد صلى الله عليه وسلم، ‏{‏والنورِ الذي أنزلنا‏}‏ وهو القرآن، فإنه بيّن حقائق الأشياء، فيهتَدي به كما يهتدى بالنور‏.‏ والالتفات في «أنزلنا» لكمال العناية بالإنزال، ‏{‏والله بما تعملون‏}‏ من الامتثال وعدمه ‏{‏خبير‏}‏، فيجازيكم عليه‏.‏ وإظهار اسم الجليل لتربية المهابة، وتأكيد استقلال الجملة‏.‏

واذكر ‏{‏يومَ يجمعكم‏}‏ أو‏:‏ لَتنبؤنَّ، أو خبير ‏{‏يوم يجمعكم ليوم الجمع‏}‏ وهو يوم يُجمع فيه الأولون والآخرون للحساب والجزاء، ‏{‏ذلك يوم التغَابُنِ‏}‏، مستعار من‏:‏ تغابن القومُ في التجارة، وهو أن يُغبن بعضُهم بعضاً، لنزول السعداء منازلَ الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء، ونزول الأشقياء منازل السعداء لو كانوا أشقياء، كما ورد في الحديث‏.‏ وقد يتغابن الناسُ في ذلك اليوم بتفاوت الدرجات، وذلك هو التغابن الحقيقي، لا التغابن في أمور الدنيا، ‏{‏ومَن يؤمن بالله ويعمل صالحاً نُكَفِّرْ‏}‏ بنون العظمة لنافع والشامي، وبياء الغيبة، أي‏:‏ يُكَفِّر الله ‏{‏عنه سيئاتِه ونُدْخِلْه جنات‏}‏ أو‏:‏ يُدخله الله ‏{‏جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك‏}‏ أي‏:‏ ما ذكر من تكفير السيئات وإدخال الجنات ‏{‏الفوزُ العظيم‏}‏ الذي لا فوز وراءه؛ لانطوائه على النجاة من أعظم الهلكات، والظفر بأجل الطلبات‏.‏

‏{‏والذين كفروا وكَذَّبوا بآياتنا أولئك أصحابُ النار خالدين فيها وبئس المصير‏}‏؛ المرجع، كأنّ هاتين الآيتين الكريمتين بيان لكيفية التغابن‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ فأمِنوا بالله ورسوله إيمان العيان، لا إيمان البرهان، أي‏:‏ قدِّموا إيمان البرهان، ثم سيروا إلى مقام العيان، وآمِنوا بالقرآن، وصَفُّوا مرآة قلوبكم حتى تسمعوه منا بلا واسطة، واذكروا يومَ يجمعكم ليوم الجمع الدائم لأهل الجمع في الدنيا، ذلك يوم التغابن، يغبن الذاكرون الغافلين، والمجتهدون المقصّرين، والعارفون بالله والمحجوبين عنه، وهذا هو الغبن الكبير، ومَن يُؤمن بالله، ثم يَجْهد في شهود الله، ويعمل عملاً صالحاً، وهو العمل بالله، نُكفِّر عنه سيئاته، أي رؤية أعماله ووجوده، أي‏:‏ نُغَطِّي وصفَه بوصفي، ونعتَه بنعتي، ونُدخله جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم والحِكم، وذلك هو الفوز العظيم، أي‏:‏ خَلْع الوجود المجازي عنه، وإلباس الوجود الحقيقي هو الفوز العظيم‏.‏ والذين كفروا بطريق الخصوص، وكذَّبوا بآياتنا، وهم العارفون الدالون على الله، أولئك أصحاب النار، أي‏:‏ نار الحجاب وجحيم الاحتجاب، خالدين فيها، وبئس المصير الحجاب والاحتجاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 13‏]‏

‏{‏مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏11‏)‏ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏12‏)‏ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ما أصاب من مُصيبةٍ‏}‏ دنيوية أو أخروية ‏{‏إِلاّ بإذن الله‏}‏ أي‏:‏ بتقديره وإرادته، كأنها بذاتها متوجهة إلى الإنسان، متوقفة على إذنه تعالى، ‏{‏ومَن يُؤمن بالله‏}‏ أي‏:‏ يُصدِّق بأنّ المقادير كلها بيد الله ‏{‏يَهْدِ قلبه‏}‏ للرضا والتسليم، أو الاسترجاع، فيقول‏:‏ إنّا لله وإنّا إليه راجعون، أو‏:‏ يَهْدِ قلبه حتى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليُصيبه، وعن مجاهد‏:‏ إن ابتلي صبر، وإن أعطي شكر، وإن ظُلم غفر‏.‏ ونقل ابن عطية عن المفسرين‏:‏ أنّ المراد‏:‏ مَن اعترف بالقدر هانت عليه المصيبة، وسلَّم لأمر الله تعالى‏.‏ ‏{‏واللهُ بكل شيءٍ عليمٌ‏}‏ فيعلم ما في القلوب من برد الرضا أو حرارة التدبير‏.‏

‏{‏وأطيعوا اللهَ‏}‏ فيما أمركم به، ومن جملته‏:‏ الرضا بقضائه عن المصائب، ‏{‏وأطيعوا الرسولَ‏}‏ فيما سنَّ لكم من الأخلاق الطيبة، وكرر الأمر للتأكيد والإيذان بالفرق بين الطاعتين في الكيفية، ‏{‏فإِن توليتم‏}‏ عن طاعتهما ‏{‏فإنما على رسولنا البلاغُ المبين‏}‏، وهو تعليل للجواب المحذوف، أي‏:‏ فإن تُعرضوا فلا بأس عليه؛ إذ ما عليه إلاّ البلاغ، وقد فعل ذلك بما لا مزيد عليه‏.‏ وإظهار الرسول مضافاً إلى نون العظمة في مقام إضماره لتشريفه صلى الله عليه وسلم والإشعار بأنّ مدار الحكم، الذين هو وظيفته عليه السلام هو محض التبليغ، ولتشنيع التولِّي عنه‏.‏

‏{‏اللهُ لا إِله إلاّ هو‏}‏ لا يستحق العبادة غيره، ف «الله»‏:‏ مبتدأ، و«لا إله إلا هو»‏:‏ خبره، ‏{‏وعلى الله‏}‏ دون غيره ‏{‏فليتوكل المؤمنون‏}‏، حَثّ رسولَه صلى الله عليه وسلم على التوكُّل عليه حتى ينصره الله، وهي عامة لغيره، وإظهار الجلالة في موضع الإضمار للإشعار بعليّة التوكُّل والأمر به، فإنّ الألوهية مقتضية للتبتُل إليه تعالى بالكلية، وقطع التوكُّل عما سواه بالمرة‏.‏

الإشارة‏:‏ ما من نَفَس تُبديه، إلاَّ وله قَدَر فيك يُمضيه‏.‏ ما أصاب من مصيبة قلبية أو نفسية، ظاهرة أو باطنة، إلاّ بإذن الله وقَدَرِه، وكذلك ما أصاب من مسرةٍ أو زيادة إلاّ بإذنه تعالى‏.‏ قال القشيري‏:‏ أي‏:‏ أيّ خصلة حَصَلَت فمن قِبَله، خَلْقاً، وبعلمه وإرادته حُكماً، ومَن يؤمن بالله يهدِ قلبه، حتى يهتدي إلى الله في السراء والضراء في الدنيا، وفي الآخرة يهديه إلى الجنة، وقيل‏:‏ يهديه للأخلاق السنية، وقيل‏:‏ لاتباع السنّة، واجتنابِ البدعة‏.‏ ه‏.‏ وقال أبو بكر الورّاق‏:‏ ومَن يؤمن بالله عند النعمة والرخاء فيعلم أنها من فضل الله يهدِ قلبه للشكر، ومَن يؤمن بالله عن الشدة والبلاء، فيعلم أنها من الله يَهْد قلبه للصبر والرضا‏.‏ ه‏.‏

قال في الحاشية الفاسية‏:‏ والظاهر والمتبادر‏:‏ أنّ قوله‏:‏ ‏{‏ما أصاب‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية جمعٌ على الله، ورَدٌّ من الأسباب، والوقوف معها، إلى الوقوف مع قضائه، وإنما يجد ذلك المؤمن بالله، وأمّا غيره فصَدْره ضَيق حرج عن قبول المعرفة، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏ومَن يؤمن بالله يَهْد قلبه‏}‏ لمعرفته والأطمئنان به، أي‏:‏ ومَن لم يؤمن يَصْلى نار القطيعة والبُعد، وحرارة التدبير، ففيه ترغيب في الإيمان وتحذير من الكفر، وأنّ الإيمان تعقبه جنة الرضا والتسليم، عاجلاً، والكفر بضد ذلك، فبَعد أن ذكر الجزاء في الآخرة أشار إلى الجزاء المعجّل من اليقين والرضا للمؤمن، وضده للكافر‏.‏

والله أعلم‏.‏ ه‏.‏

وأطيعوا اللهَ في الفرائض والرسول في السنن، وقد بقي بعد الرسول خلفاؤه، يسنون السننَ الخاصة، فمَن أعرض عنهم، يقال له‏:‏ ‏{‏فإن توليتم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، وتقدّم في آل عمران وغيرها الكلام على التوكُّل‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 18‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏14‏)‏ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏15‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏16‏)‏ إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏17‏)‏ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إِنّ مِن أزواجكم وأولادِكم عدواً لكم‏}‏ يشغلونكم عن طاعة الله تعالى، ويُخاصمونكم في أمور الدنيا، أي‏:‏ إنَّ من الأزواج أزواجاً يُعادين بعولتهنّ ويخاصمنَهم، ومن الأولاد أولاداً يُعادون آباءهم ويعقّونهم، ‏{‏فاحذروهم‏}‏؛ كونوا على حذر منهم إن شغلوكم عن الله، فالضمير للعدو، فإنه يُطلق على الجمع، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 77‏]‏، أو‏:‏ للأزواج والأولاد جميعاً، فالمأمور به على الأول‏:‏ الحذر عن الكل، وعلى الثاني‏:‏ الحذر من البعض، لأنّ منهم مَن ليس بعدو، وإمّا الحذر عن عموم الفريقين، لاشتمالهما على العدو‏.‏ ‏{‏وإِن تَعفوا‏}‏ عن ذنوبهم القابلة للعفو، بأن تكون متعلقة بأمور الدنيا، أو بأمور الدين لكن مع التوبة، أو‏:‏ تعفوا إذا اطّلعتم منهم على عداوة، ‏{‏وتصفحوا‏}‏؛ تُعرضوا عن التوبيخ، ‏{‏وتغفروا‏}‏؛ تستروا ذنوبهم، ‏{‏فإِنَّ الله غفور رحيم‏}‏ يغفر لكم ذنوبكم، ويعاملكم مثل ما عاملتم‏.‏

رُوي أنّ ناساً من أهل مكة أرادوا الهجرة، فتعلّق بهم نساؤهم وأولادهم، وقالوا‏:‏ تنطلقون وتُضيعوننا، فرقُّوا لهم، ووقفوا، فلما هاجروا بعد ذلك، ورأوا الذين سبقوهم قد فَقِهُوا في الدين، وحازوا رئاسةَ التقدُّم، أرادوا أن يُعاقبوا أزواجهم وأولادهم، فرغّبهم في العفو‏.‏

‏{‏إِنما أموالُكم وأولادُكم فتنةٌ‏}‏؛ بلاءٌ ومحنةٌ، يوقعون في الإثم والعقوبة، أو‏:‏ امتحان واختبار، يختبر بهما عبادَه، هل يصدونهم عن الخير أم لا، فيعرف القويّ في دينه من الضعيف‏.‏ قال الحسن‏:‏ أدخل «مِن» للتبعيض في الأزواج والأولاد؛ لأنَّ كلهم ليسوا بأعداء، ولم يذكر «مِن» في فتنة الأموال والأولاد؛ لأنها لا تخلو من فتنة واشتغال قلب بها‏.‏ كان لابن مسعود بَنون كالبُدور، فقيل له وهم بين يديه‏:‏ أيسرُّونك‏؟‏ فقال‏:‏ لا، إنما يسرُّني لو نفضت يدي من التراب عند دفنهم، فنفوز بأجورهم، قيل له‏:‏ إنَّ لك الأجر في تربيتهم، فقال‏:‏ كل ما يشغل عن الله مشؤوم‏.‏ ه‏.‏ من اللباب‏.‏ وعن ابن مسعود‏:‏ لا يقل أحدكم‏:‏ اللهم اعصمني من الفتنة؛ إذ لا يخلو منها أحد، ولكن ليقل‏:‏ اللهم إنني أعوذ بك من مضلاَّت الفتن‏.‏ قال أبو بريدة‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فجاءه الحسن والحسين، عليهما قميصان أحمران، يجرانهما، يعثران، ويقومان، فنزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن المنبر، حتى أخذهما، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏إنما أموالكم وأولادكم فتنة‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الآية، ثم قال «إني رأيت هذين فلم أصبر» ثم أخذ في خطبته‏.‏

‏{‏واللهُ عنده أجرٌ عظيم‏}‏ لمَن آثر محبةَ الله وطاعتَه على محبة الأموال والأولاد، والسعي في تدبير مصالحهم، وليس في الآية ترهيب من مخالطة الأزواج والأولاد، إنما المراد النهي عن الاشتغال بهم عن ذكر الله وطاعته، فإذا تيسّر ذلك معهم فالمخالطة أولى، فَعَن أنس رضي الله عنه‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله؛ الجلوس مع العيال أحب إليك أم في المسجد‏؟‏ قال‏:‏

«جلوس ساعة مع العيال أحب إليَّ من الاعتكاف في مسجدي هذا، ودرهم تُنفقه على العيال أفضل من أن تنفقه في سبيل الله» انظر السمرقندي‏.‏

‏{‏فاتقوا اللهَ ما استطعتم‏}‏ أي‏:‏ ابذلوا جهدَكم وطاقتكم في تقواه، قال ابن عطية‏:‏ تقدّم الخلاف هل هذه الآية ناسخة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 102‏]‏ أو‏:‏ مُبيّنة لها، والمعنى‏:‏ اتقوا الله حق تقاته فيما استطعتم، وهذا هو الصحيح‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏واسمَعُوا‏}‏ ما تُوعظون به، ‏{‏وأطيعوا‏}‏ فيما تُؤمرون به ‏{‏وأَنفِقوا‏}‏ مما رزقناكم في الوجوه التي أُمرتم، فالإنفاق فيها خالصاً لوجهه ‏{‏خيراً لأنفسِكم‏}‏ أي‏:‏ وائتوا خيراً لأنفسكم ‏{‏ومَن يُوقَ شُحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون‏}‏ الفائزون بكل خير‏.‏

‏{‏إِن تُقرضوا اللهَ‏}‏ بصرف أموالكم إلى المصارف التي عيّنها ‏{‏قرضاً حسناً‏}‏ مقروناً بالإخلاص ‏{‏يُضاعِفْهُ لكم‏}‏ بالواحدة عشراً إلى سبعمائة أو أكثر، ‏{‏ويغفرْ لكم‏}‏ ببركة الإنفاق ما فرط منكم، ‏{‏واللهُ شكورٌ‏}‏ يُعطي الجزيل في مقابلة القليل، ‏{‏حليمٌ‏}‏ لا يُعاجِل بالعقوبة، ‏{‏عالمُ الغيب والشهادة‏}‏ لا تخفى عليه خافية، ‏{‏العزيزُ الحكيمُ‏}‏ مبالغ في القدرة والحكمة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ كل ما يشغلك عن السير إلى الحضرة، أو عن الترقِّي في معاريج الوصلة، فهو عدو لك، فاحذره، بالفرار من موافقته والوقوف معه، فكن إبراهيميًّا، حيث رمَى أهلَه وولَده في وادٍ غير ذي زرع، وتركهم في كنف الله وحِفْظِه، فانظر كيف حَفِظَهم غايةَ الحفظ، وتولاهم غاية التولي، وجعل أفئدة الناس تهوي إليهم من كل جانب، وانصبّت عليهم الأرزاق من كل ناحية، فهذه عادته تعالى مع أهل التوكُّل والانقطاع إليه‏.‏ ومِن الأزواج والأولاد مَن يزيد بالرجل ويُعينه على ربه، فهؤلاء ليسوا بأعداء‏.‏ قال سهل‏:‏ مَن دعاك مِن أهلك وولدك للميل للدنيا فهو عدو، ومَن واخاك على القناعة والتوكُّل فليس بعدو‏.‏ ه‏.‏ قال القشيري‏:‏ إنَّ من أزواجكم‏:‏ نفوسكم الأمَارة، وأولادكم‏:‏ صفاتها ومُناها وأخلاقها الشهوانية، عدوًّا لكم، يمنعكم عن الهجرة إلى مدينة القلب، الذي هو بيت الرب، فاحذروا متابعتَهم بالكلية، وإن تعفوا عن هفواتكم الواقعة في بعض الأوقات، لكونهم مطية لكم، وتصفحوا عن التوبيخ، وتغفروا‏:‏ تستروا ظلمتهم بنور إيمانكم وشعاع قلوبكم، فإنّ اللهَ غفور سائر لكم بستر لطفه، رحيم بإفاضة رحمته عليكم‏.‏ ه‏.‏ ببعض المعنى‏.‏

إنما أموالكم وأولادكم فتنة اختبار من الحق، ليعلم مَن يقف معها، أو ينفذ عنها، فأهل العناية لم يشغلهم عن الله شيء، فحين توجّهوا إليه كفاهم أمْرَهم، أو‏:‏ بالغيبة عنها بالخمرة القوية‏.‏ قال القشيري‏:‏ أموالكم‏:‏ أعمالكم المشوبة، وأولادكم‏:‏ أخلاقكم المكدرة، فكدورة الطبع فتنة توجب افتتانكم بالإعراض عن الحق، والإقبال على الدنيا، وحب الجاه عند الناس، والتفاتهم إليكم بحسن الاعتقاد، والله عنده أجر عظيم بالفناء عن الكل والبقاء بالحق‏.‏

ه‏.‏

‏{‏فاتقوا الله ما استطعتم‏}‏ أي‏:‏ غِيبوا عما سوى الله طاقة جهدكم، وتقدّم أنَّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 102‏]‏ خطاب لأهل التجريد، وهذا خطاب لأهل الأسباب، والله تعالى أعلم‏.‏ وقال ابن عطاء‏:‏ الاستطاعة على الظواهر والأعمال، وحق تقاته على القلوب والأحوال‏.‏ ه‏.‏ أي‏:‏ اتقوا الله حق تقاته بتوجيه القلوب إليه بلا التفات، واتقوا الله ما استطعتم بعمل الجوارح قدر الطاقات‏.‏ قال القشيري‏:‏ ما أنتم في الجملة مستطيعين، ويتوجه إليكم التكليف، فاتقوا الله، والتقوى عن شهود التقوى، بعد ألاّ يكونَ تقصيرٌ في التقوى غايةُ التقوى‏.‏ ه‏.‏ واسمعوا منا بلا واسطة، وأطيعوا فيما نأمركم به مما يُقرب إلينا، وننهاكم عنه مما يُبعد عنا‏.‏ قال القشيري‏:‏ أطيعوا بالنفس لأحكام الشريعة، وبالقلب لآداب الطريقة، وبالروح بطلوع الحقيقة‏.‏ ه‏.‏ وأنفِقوا من أموالكم وعلومكم وأسراركم، على الطالبين والسالكين والواصلين، يكن خيراً لأنفسكم، لأنّ الناس نفس واحدة، فإنفاقك على غيرك إنفاق على نفسك، لانتفاء الغيرية في الأحدية‏.‏ ومن يُوق شُحَّ نفسه بإنفاقها في مرضاة الله، بأن يُقدمها للمَتالف والمتاعب في طلب الوصول، فأولئك هم المفلحون الظافرون بشهود الحق‏.‏ قال القشيري‏:‏ ومَن يُوق شُحَّ نفسه حتى يرتفع عن قلبه الأخطار، ويتحرَّر من رِقِّ المكونات، فأولئك هم المفلحون‏.‏ ه‏.‏ وعن بعضهم‏:‏ مَن أنفق بكُرهٍ فهو شح، ومَن أَنفق بطوعٍ فهو الفرض، ومَن عُوفي من بلاء الجمع والمنع، والرغبة والحرص، فقد دخل في ميدان الفلاح‏.‏ ه‏.‏

إن تُقرضوا الله بإعطاء وجودكم قرضاً حسناً، من غير اعتبار الغرض والعوض، بالفناء عن شهود القَرْض والحس، يُضاعفه لكم بالوجود الحق، المشتمل على جميع الموجودات الإضافية، ويغفر لكم‏:‏ يستر عنكم مساوئكم وحسّ وجودكم قبل فنائكم في الله وبقائكم به‏.‏ والله شكور يقبل مَن توجه إليه بلا شيء، حليم يُغيّب العبد عن شهود مساوئه، بإغراقه في إحسانه‏.‏ عالم الغيب‏:‏ بواطن الأرواح، والشهادة‏:‏ شهادة ظواهر الأشباح، العزيز‏:‏ المعزّ لأوليائه ومكل مَن انتسب إليه، الحكيم في قسمه المراتب على حسب التوجُّه‏.‏ وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله‏.‏ وصلّى الله على سيدنا محمد وآله‏.‏